رشيد العناني يبحث عن الحرية في مقالات عن الأدب والحياة

محمد الحمامصي
كُتبت الغالبية العظمى من المقالات التي يحتويها هذا الكتاب “البحث عن الحرية.. مقالات في الأدب والحياة” للناقد د. رشيد العناني الصادر عن الدار المصرية اللبنانية أخيرا فيما بين سنتي 2010 و 2013، أي في الشهور السابقة على ثورة يناير 2011 والعامين اللاحقين لها، ونُشر أكثرها في صحيفة أو أخرى في ذلك الوقت.

ووفقا للمؤلف لم تكن المقالات تتبع برنامجا معينا، والكثير منها كانت تمليه قراءاته وقتها، أو متابعاته للأحداث العامة، و”إن كانت المتابعة تأتي دائما من مدخل أدبي أو فكري، وليس من قبيل التعليق المباشر على الأحداث. وحين شرعت في إعداد المقالات للنشر في هذه المجموعة باعتبارها مقالات متفرقة في موضوعات شتّى، أدهشني مقدار التناغم بينها، أو بين أكثرها حتى لا أكون مبالغا، وكأن ثمة برنامجا خفيا يُملي اهتماماتها وينسق اتجاهاتها في عفوية تكاد تتماهى مع القصد والتدبير”.

الهاجس المشترك بين مقالات هذه المجموعة كما أشار العناني “هو هاجس الحرية، الحرية بكل معانيها، الحرية السياسية، الحرية الاجتماعية، الحرية الفردية، الحرية الدينية، الحرية الجنسية، الحرية الفكرية، حرية المرأة، حرية التعبير، حرية النشر، وما يتبع الحريات من مبادئ حقوق الإنسان وقيم التعددية والتسامح وقبول الاختلاف والتعايش مع الآخر فكريا واجتماعيا وعقائديا.

في الفترة المرهصة بثورة يناير والفترة اللاحقة لها مباشرة كانت هذه هي التطلعات التي تشغل بال المجتمع بكل فئاته. كان هناك حراك اجتماعي وفكري على كل الأصعدة يطمح إلى التغيير.. إلى الحرية والكرامة والسلام في عبارة صابر، بطل نجيب محفوظ في رواية “الطريق”، أو إلى “العيش والحرية والكرامة الإنسانية” في شعار ثورة يناير الشهير، والذي أحب أن ألفت النظر فيه إلى التورية العفوية في لفظة “عيش”، فالعيش ليس فقط الحق في الخبز أو الكرامة الاقتصادية، وإنما هو أيضا “الحياة”.. الحق في الحياة.. الحياة في حرية.. الحياة التي تحترم الدولة فيها كرامة الإنسان وفرديته”.

ولفت العناني إلى أن هذه هي شواغل المجتمع، ومن ثمَّ فإنها كانت أيضا شواغل الأدب وشواغل النقد الأدبي. وقال “كان الأدب والنقد يبشران بالثورة، ليس من طريق مباشر. ليس من طريق الدعوة إليها كما في منشورات التحريض المباشر على العمل الثوري، ولكن من سبيل عكس القلق الاجتماعي إزاء العيوب والمفاسد والمظالم والحقوق المهدرة، ومن سبيل عكس الأمل في التغيير والتطلع إلى نموذج حياتي مختلف. جاءت الثورة ومضت بدون أن تحقق أحلامها، ولا يزال التاريخ في حال تشكُّل. ولم يُتح للأدب بعد فرصة أن يروي قصتها وعِبَرها. لم يمرّ زمن كافٍ بعد. ولنذكر أنه كان على ثورة 1919 أن تنتظر أكثر من 35 عاما حتى يأتي نجيب محفوظ فيروي قصتها ويخلّد ذكراها في ثلاثيته العظيمة”.

من مقالات الكتاب “هِرتا مولر الفائزة بنوبل 2009: الدكتاتورية في “أرض البرقوق الأخضر”، “روح الثورة المتجددة أبدا: إنكلترا في سنة 1819 ومصر في سنة 2011″، و” تأملات قصصية في معنى الثورة المصرية “ميلاد في التحرير” لفؤاد قنديل”، “روحانية الشرق ومادية الغرب: سليمان فيّاض يقلب المائدة على توفيق الحكيم”، “رسالة من ميخائيل نعيمة إلى جورج بوش: التنين الأميركي المخيف”، “الرواية الفائزة بالبوكر العربية لعام 2013: الذات العربية والآخر الآسيوي في “ساق البامبو” لسعود السنعوسي”.

في مقاله “روح الثورة المتجددة أبدا إنكلترا في سنة 1819 ومصر في سنة2011” رأى العناني أن الثورة هي الثورة في كل زمان وكل مكان. والروح الثورية هي روح خالدة تنتقل من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل. قد تضعف أو تنام أو تتوارى، ولكنها أبدا لا تموت، ودوما تنبعث قوية، جبارة، في اللحظة المواتية، من حيث لا يحتسب أحد، فتفاجئ الجميع. كل ما يلزم لبعثها هو أن “يجاوز الظالمون المدى”، كما قال علي محمود طه ذات يوم. وهذا ما حدث لنا في مصر 2011.

وقال “لكن ما علاقة هذا كله بقصيدة صغيرة، “سونيتّة” من أربعة عشر بيت لشاعر إنكليزي من القرن التاسع عشر؟ الشاعر هو شلي Shelley (1792-1822)، من أعلام الرومانسية الإنكليزية التي كانت في مجملها حركة ثارت على الأساليب والأخيلة الشعرية القديمة، ولم تخلُ من تأثر بالثورة الفرنسية وأفكارها السياسية التقدمية في بعض جوانبها. عثرت على قصيدة شلي “إنكلترا في سنة 1819″ بمحض الصدفة قبل عام أو نحوه، بينما كنت أقرأ بعض المختارات من الشعر الرومانسي الإنكليزي. هالني إغراقها في سياسة عصرها، على الرغم من ميل الرومانسية إلى شعر الطبيعة والتأمل الذاتي في الأغلب. غير أن ما هالني أكثر من ذلك هو أني أحسست فور انتهائي منها أني ما كنت أقرأ إلا قصيدة عن مصر اليوم، عن مصر حسني مبارك. ترجمت القصيدة معتزما أن أكتب عنها، غير أن الثورة سبقت، و”سطعت نورا في زمننا العاصف” كما يقول شلي في ختامها المفعم بالرجاء في نهاية قصيدة تصور حالا شديد الحلكة.

ها هو نص القصيدة، وسأتبعه ببعض التعليقات التي أود أن أشرك القارئ فيها.

“إنكلترا في سنة 1819”:

ملك عجوز، خَرِف، أعمه، مُسْتَهجَن ومشرف على الموت –

أمراء، هم بقايا عنصر بليد – ينسربون –

وحلا من نبع موحل – في مجرى الاحتقار العام،

حكّام لا يرون ولا يشعرون، ولا يعرفون،

ولكن – مثل عَلَقَة ماصّة للدماء – ببلدهم المتهافت يلتصقون،

إلى أن يسقطوا – عميان وسط الدماء – من دون أن تُكال لهم ضربة.

شعب جائع ومطعون، في حقول غير محروثة.

جيشٌ مغتالٌ للحرية وضحيةٌ في آنٍ،

– مثل سيف ذي حدّين لكل من يُشرعه –

يسنّ الشرائع الذهبية والدموية التي تُغوي وتصرع.

دين بلا مسيح ولا إله – كتاب مُسْتَغْلَق.

مجلس شيوخ – بين أسوأ ما عرفه الزمن من شرائع لم تُستنسخ.

قبورٌ هذا كله، عسى أن ينبعث منها شبحٌ ماجد

يسطع نورا في زمننا العاصف.

وقال “ما على القارئ إلا أن يبدّل بعض الكلمات بأخرى فتستحيل القصيدة من إنكلترا 1819 إلى مصر 2011 في غير عناء. الملك المشار إليه هو جورج الثالث (اقرأ “رئيس” لتمصير السياق، والباقي سارٍ من غير تغيير!) أما “الأمراء” و”الحكام”، فضع مكانها حاشية الرئيس السابق السياسية والحزبية والأسرية من الطبقة الحاكمة الموغلة في الفساد والإثراء غير المشروع، وما يتبع هو وصف مشترك بالغ الدقة في تصويره للنظام المشرف على التهاوي. أما الشعب فهو حقا “مطعون وجائع” في مصر مبارك كما كان في إنكلترا جورج الثالث.

فإذا انتقلنا إلى وصف الجيش المزدوج فهو “يغتال الحرية” ولكنه أيضا “ضحية”، فما أصدق هذا الوصف على حال جيشنا اليوم، أو بالأحرى المجلس العسكري، الذي لا يزال يتخبط في إدارة البلاد منذ عام وتكثر الشكوك في نواياه، إلا أنه أيضا “ضحية” الظرف الذي وجد نفسه فيه بدون اختيار ولا تمهيد، و”ضحية” كونه سليل النظام المطلوب منه أن يقوم على محو كل آثاره”.

وأوضح “تمتد ثورة الشاعر إلى الأعراف الدينية السائدة، فتأتي عبارته القاسية “دين بلا مسيح ولا إله – كتاب مستغلق” عنوانا على مجتمع جُردّ الدين فيه من محتواه الأخلاقي، وتحول إلى شكليات، وجُنّد في خدمة الدولة، حتى أصبح حكرا على رجال الدين وكتابا “مستغلقا” لا يملك غيرهم حل طلاسمه، وكل يحلّ على هواه! وهكذا كان في مصر مبارك أيضا.

أما آخر ضربات الشاعر الثائر فيكيلها للبرلمان، “مجلس الشيوخ” أو إن شئت “مجلس الشعب”، فينعت قوانينه بأنها “أسوأ ما عرف الزمن” وأنها واجبة الإلغاء. إلا أنه في وسط هذا اليأس المطبق، هذا الظلام الجاسم على الأمة، هذا الموت، أو في عبارة القصيدة “هذا كله قبور”، لا يفقد الشاعر الثائر الأمل، بل يدرك أن لا بد أن يسطع ذات يوم من دياجير القبور نور يضيء الزمن العاصف.

كتب شلي قصيدته متأثرا بما عُرف “بمذبحة بيترلو” في مدينة مانشستر في شمال إنكلترا في شهر أغسطس/آب سنة 1819، حين هاجم سلاح الخيّالة بسيوف مشهرة (اقرأ موقعة الجمل!) جمهورا من عشرات الآلاف احتشد للمطالبة بحقوقه في التمثيل البرلماني، فقُتل 15 شخصا، وأصيب نحو 700.

لم يسطع النور في 1819 في إنكلترا كما تمنى شلي، بل إن الشاعر الثائر نفسه مات غرقا في صدر شبابه بعد ثلاث سنوات فقط من قصيدته والأحداث الأليمة التي كانت من ورائها. إلا أنه في مصر سطع النور في 2011″.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى