سيد القمني: لا بد من تحطيم أوثان العقل الغيبي

حنان عقيل

قبل عدة أشهر، كانت الاتصالات الأولى مع المفكر المصري سيد القمني لإجراء حوار مُطوّل، في البداية كان هناك نوع من الترحيب والموافقة. أيامٌ مضت قبل تحديد موعد الحوار ليواجَه القمني بسيل من الاتصالات الإعلامية بعدما حُرِّكت دعوى قضائية ضده بتهمة ازدراء الأديان، على خلفية محاضرة له نظمتها منظمة بلجيكية تدعى “آدهوك”، ليتعطل الحوار المُرتقب بعد انشغالات جديدة للقمني متعلقة بالقضية المرفوعة ضده.

بعد ما يقرب من شهر، عاودنا الاتصال به وحددنا موعدًا، إلا أنه اعتذر عنه في اليوم التالي، وبعد عدة أسابيع قمنا باتصالات أخرى فيها قدر كبير من الإلحاح لا يستجيب له القمني، ويرفض الحديث أكثر من مرة، وتحت ضغط الإلحاح، وافق القمني على إجراء المقابلة، على مضض.

في منطقة نائية شرق القاهرة، يعيش القمني منذ سنوات طويلة، هربًا من التهديدات اليومية بالقتل على خلفية الأفكار التي لا يكفّ عن بثّها، وبعدما جابه الكثير من المتاعب والمزيد من الهجوم، قرر أن تكون حياته بعيدة عن الصخب، هو ضجرٌ من أيّ صخب إعلامي ورافض لأيّ جدال حول ما يطرح من أفكار.. حالة من اليأس يعيش فيها القمني وبها أراد أن يُنهِي حوارنا قبل أن يبدأ.

استغرق الوصول إلى منزل القمني في منطقة العاشر من رمضان ما يقرب من ثلاث ساعات. المنزل القابع في تلك المنطقة النائية تحدوه الأقفال والأبواب.. أقفال خارجية وداخلية ومنزل يقبع في عزلة كصاحبه، بعد اجتياز القفل الأول فتحت القفل الثاني وأغلقت الاثنين -بالمفاتيح التي ألقاها إليَّ من شرفته- ثم صعدت للمقابلة التي طال انتظارها.

أهديته نسخة من المجلة. اطّلع بسرعة على عناوين الغلاف ثم سألني بسخرية “هل قرأتِ هذا الكلام؟”، أجبت “طبعًا”. إذن لماذا تلبسين هذا الحجاب؟ لو عرفت أنكِ محجبة ما كنت قابلتك، إن كنتِ غير قادرة على التحرّر من شيء لا يمتّ للدين بصلة فكيف بغير المثقفات؟

حاولت أن أتجنب الجدل قدر الإمكان حفاظًا على فرص إتمام الحوار. قلت “على أيّ حال أتمنى ألا يكون ذلك الحجاب حائلًا بيننا في الحديث”.. وبدأ الحوار. وعلى عكس ما توقعت من أن يأتي حديثه مقتضبًا لمقابلة جاءت على مضض، وجدته ينفعل في إجابته لكلّ سؤال أوجّهه له، إلا أنه بعد عدد من الأسئلة اعتذر عن استكمال الحوار لأنه أُرهق بشدة وغير قادر على الحديث مجددًا. قال لي “المشكلة أنني أتحدث بكل خلية في جسمي، أنا حزين حقًا على الحال الذي وصلنا إليه”. قبل أن أغادره انتابته حالة من الغثيان إثر العصبية الشديدة في حديثه.

بعد أكثر من ساعة ونصف من الحديث المتواصل، أخذ القمني نسخة من التسجيل الصوتي للحديث، واشترط ألا يحدث سجال حول حديثه قائلًا “من يناقشني لا بد أن يكون على قدري، أنا المعلم الأكبر ولا أقبل مثل تلك المناقشات”.

سيد محمود القمني هو ذاك المفكر الذي امتدت رحلته البحثية لما يقرب من خمسين عامًا، بدأها في العام 1967 عقب تهاوي الأحلام الناصرية القومية إثر النكسة، تلك الفترة التي شهدت صحوة فكرية وأدبية وفنية كانت وليدة الصدمة غير المتوقعة، ليكون مشروع سيد القمني الفكري انطلاقًا من تلك اللحظة الكاشفة للمثقفين في العالم العربي كله.

كتب القمني العديد من المؤلفات والأبحاث التي فنّد فيها التراث الإسلامي والديني بشكل عام. في كتابه “الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية” تحدث القمني عن الإرهاصات الأولى لتأسيس الدولة الإسلامية بقيادة النبي محمد مستندًا لأدلة تاريخية، ومخالفًا للكثير من المؤرّخين الذين اعتمدوا على الغيبيات في تفسير التاريخ الإسلامي. وفي “حروب دولة الرسول” سلّط القمني الضوء على الحياة السياسية والحربية لدولة الرسول محمد، ليواصل أبحاثه في مناطق مثيرة من التاريخ الإسلامي بعدد من المؤلفات منها “رب الزمان”، “النبي إبراهيم والتاريخ المجهول”، “النسخ في الوحي”، “النبي موسى وآخر أيام تلّ العمارنة”.

في كتابه “الأسطورة والتراث” عرض القمني تحليلًا علميًا ومنهجيًا للأساطير القديمة وتأثيرها على الديانات، وإيضاح للعلاقة بين تلك الأساطير والنصوص الدينية، فيما قّدم سلسلة من المؤلفات تحت عنوان “فقهاء الظلام” تناول فيها عددًا من الموضوعات منها الحجاب، الإخوان والدولة المدنية، الإرهاب، وغيرها. فضلًا عن مؤلفاته الأخرى التي مثّلت عصارة أفكاره في المقالات التي كتبها لعدد من الصحف والتي جمعها في أكثر من كتاب.

“الجديد” التقت القمني في حديث عن آخر معاركه، التي لم يمنعه من خوضها يأسه الشديد من الإصلاح ورغبته في الانعزال، متطرقين معه إلى البعض من ملامح الحياة الاجتماعية والدينية الراهنة للوقوف على أوجه العِلل التي جعلته يائسًا من إمكانية التغيير نحو الأفضل في ذلك الواقع الراهن.
الجديد: في كتابك “الأسطورة والتراث” كانت لك قراءات جريئة فيما يخص التوراة والإنجيل، كشفت من خلالها عن العلاقة بين الدين والأسطورة، لكنك عدت مؤخرًا لإثارة الجدل من خلال مقالك عن “الأزمنة الأخيرة لإسرائيل” والذي فسرت فيه الإصحاح التاسع عشر من سفر إشعياء في العهد القديم بأن أنبياء العهد القديم تمنوا خراب مصر وإذلالها.. ما الذي جعلك تثير هذه المسألة حديثًا؟ وما تفسيرك لذلك الهجوم الضاري عليك؟

* سيد القمني: في الفترة الأخيرة، وجدت عددًا كبيرًا من المسيحيين في مصر ينشرون على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي نبوءات للمدعو زورًا وبهتانًا بالنبي إشعياء، ليقولوا إن نبوءاته تتحقق الآن. عندما أجد في الظروف الصعبة التي تمرّ بها بلدي أناسًا شامتين ينشرون هذا السفر الذي يتنبّأ بخراب مصر من جميع الجوانب وجفاف النيل وقتل المصريين بعضهم بعضا، والقول إن مصر إلى دمار حتى لا يعود رئيس لها، وفي ذلك الوقت ستعود مصر للرب الحقيقي يهوه. من ينشر هذا الكلام لا يجب أن يقول إن الإسلام فقط فيه إرهاب وهو متمسك بسفر إشعياء والتوراة وهما أصل الإرهاب. من يعتمد إشعياء والتوراة يكون أسوأ ممّا جاء في تاريخ الإسلام من حروب فاتكة، وما دامت هذه مرجعيته لا يجب أن يغضب حين يتم إخضاعه لحكم إسلامي يفرض عليه الجزية.

عندما اعترضت في مقالي على نشر مثل هذا الكلام، قامت ضدّي كتائب السلفية المسيحية أو الصليبية بمعنى أصح، وهم الذين يُقدّمون الدين على الوطن، وهذا لا يختلف عما فعله جماعة الإخوان والسلفية الجهادية الذين لم يرتقوا من مرتبة الإنسان السائر على قدمين الذي لا يستخدم عقله سوى في الشؤون اليومية. العبيد إذا أمطر عليهم سيد القمني سيل الحرية فتحوا المظلات؛ هؤلاء عبيد الكهنة، المسيح الحقيقي مواطن مصري قبل كل شيء.

عندما كنت أنقد التراث الإسلامي كان المسيحيون يصفّق لي، ولكن عندما اقتربت من تراثهم المسيحي شنّوا هجماتهم الضارية ضدي، مع هذا، أنا لم أقترب بعد من نقد الأناجيل، وقد حذرهم تلاميذي من أن أقترب من تلك المنطقة. من يضع الدين قبل الوطن هو ذميّ وليس أكثر من ذلك، ويحتاج لمن يتكلم معه اللغة الإسلامية؛ اركع يا ذليل لسيدك المسلم وسأطبق عليك الشريعة ما دمت طالبًا لمصر خراب إشعياء.

هؤلاء المسيحيون كنت أدافع عنهم وقتما كانوا كالأنعام لا يفهمون، وعندما كانت الكنيسة مصابة بخرس لساني وشلل رباعي كنت أطالب بحقوقهم، ليس لأنهم أقباط ولكن لأنهم مواطنون مصريون في المقام الأول. نتيجة لذلك اعتبروني تنصّرت بل أقرّوا بذلك، لكنني أوضحت لهم أنني لا أستطيع أن أكون نصرانيًا.

انهيار أخلاقي
الجديد: تقول إن لديك العديد من الانتقادات للأناجيل، وأنك لا تستطيع أن تكون نصرانيًا.. لماذا؟

*سيد القمني: لا أستطيع أن أكون نصرانيًا لأسباب عدة؛ في المسيحية يصومون كثيرًا وأنا مؤمن بأن الفرد لا يستطيع أن يُنتِج شيئًا وهو صائم، بالنسبة إليّ رمضان شهر البهجة والسرور؛ أستيقظ قبيل المغرب بنصف ساعة ثم أتناول الإفطار وأقضي الليل في مشاهدة النساء الجميلات في التلفزيون، فأنا رجل عجوز أُحبّ أن أُمتّع نظري.

من جهة أخرى، لا يوجد مسيحي واحد بوسعه تطبيق كلام المسيح وبالتالي لو اتبعت هذا الدين سأكون منافقًا. المسيحيون اخترعوا أسطورة تقول إن رجلا يُدعى سمعان الخراز قام بنقل جبل المقطم ويحتفلون به كل عام، وهي إحدى الخرافات التي إن قالها شخص يجب أن يُودع مستشفى الأمراض العقلية فورًا. وفي إنجيليهم “لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل”. الشعب المصري يعيش الخرافة بكاملها. أودّ أن أُعلن أنني مستعد أن أتعمّد غدًا لو استطاع واحد من أصحاب المعجزات في المسيحية أن يشفيني من جميع الأمراض المستعصية التي ابتلاني الله بها، وإلا فليخرسوا ويتوقفوا عن نشر الجهالة.
المسيحية كدين ليس لديَّ اعتراض عليها ولا تسبب لي أيّ مشكلة، هي ديانة سلامية شأنها شأن البوذية وغيرها. المشكلة عندي عندما تتحول إلى الصليبية ممثلة في هؤلاء المنتمين إلى إشعياء. لقد شرحت للبشرية سلّم القيم الذي يمكن أن نصعد من خلاله. وقلت إن الدرجة الأولى التي تُمثِل الرباط المتين في هذا السلّم هي الوطن، ولا يجوز أن تكون الدين بأيّ حال من الأحوال لتعدد مذاهبه وطوائفه. يليها العلم في الدرجة الثانية، ثم يأتي الدين والمذاهب في آخر السلّم لتمزقه ويمكن التغلب على ذلك وقتها. الشارع الآن (إسلامي ومسيحي) وصل إلى أقصى درجة من الانهيار الأخلاقي. الرباط لأيّ مجتمع الوطن. وفي الوقت الراهن، غابت قيم الوطن عند المواطنين وعند الحكام، وأخص بالذكر، الحكام الحاليين، ومن ثم غابت قيمة العلم.
الاحتلال المتحضر
الجديد: هاجمت الفتوحات الإسلامية في عهد عمرو بن العاص في أكثر من حديث لك.. ما السبب؟

* سيد القمني: تمنيت لو أن عمرو بن العاص لم يدخل إلى مصر؛ أعتقد أن تاريخ المنطقة كلها كان سيتغير تمامًا آنذاك، فمصر عندما كانت تُحتل كان ذلك يتم على أيدي متحضرين، فالمتحضر الأقوى يُقدّر حضارة المتحضر الأضعف أمامه فيضيف له ولا يمحو حضارته. عندما دخل الإسكندر مصر أبقى على جيشه خارجها وكانت مصر في حالة انهيار تامة لكنها كانت بلد الحضارة، فنزل بقارب وطلب أن يحج لآمون، هذا المثقف الذي علّمه أرسطو لم يقل إما زيوس أو الجزية أو القتل.

الروم أيضًا أضافوا لمصر وأكملوا المكتبة بعدما تم حرقها، أما عمرو بن العاص وقف على الحدود وطلب ثلاثة أشياء إما الإسلام أو الجزية أو القتل، وقتها لم يكن القرآن قد جُمِع بعد، كما أن حفظة القرآن منعهم عمر بن الخطاب من الخروج للغزو، والنصائح الجميلة للقوات الغازية بألاّ تقتل قعيدًا أو كبير السن أو عجوزًا، قتلتها الاستثناءات “إلا من شارك ولو بالمال أو الأدوات أو الطعام أو التحريض ضد الغزاة العرب”، ومن ثم كان يتم قتل كل من يحاول الدفاع عن أهله أو بيته حتى لو كان قعيدًا.
فيديو بروكسل
الجديد: في محاضرتك الأخيرة ببروكسل، والتي كانت سببًا في تحريك دعوى قضائية ضدك بتهمة ازدراء الأديان، تم تداول فيديو للمحاضرة تقول فيه بأن الخطر الحقيقي على العالم هو الإسلام ويجب التحرك للتخلص منه، وأن الأديان كلها حلت مشكلتها مع الحداثة عدا الإسلام.. ما حقيقة هذه الأقوال؟ وما تفسيرك لها؟

* سيد القمني: يرد بغضب: لم أقل هذا وأرفض هذا السؤال لأنه معتمد على فيديو مقتطع نشره العدوّ الخسيس وتداوله الكثيرون على المواقع الإلكترونية. من يسمع المحاضرة الأصلية سيعرف أنني قلت “الإسلام المعمول به حاليًا والمتداول بين الناس في العالم الإسلامي أشدّ خطرًا على العالم ويجب التخلص منه”، ولم يكن الحديث بهذا الشكل المقتطع الذي هدف إلى التشويه المتعمد.

في المحاضرة: الغرب لديه مشكلة في التعاطي مع الإسلام، أقول لكم: زيدوا حقن الإسلاموفوبيا في العالم وعرّفوا العالم أنه في خطر ساحق، أيّ مسلم يعتقد أن دينه صالح لأيّ زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة، عندما يتبع أدنى ما فيه ينفذه كالزيّ واللحية، هذا رجل إرهابي. كل الأديان حلّت مشكلتها مع الحداثة إلا الإسلام لأنه يرفض التخلي عن فكرة الصلاحية لكل زمان ومكان، المشكلة أنك تواجه مجتمعًا بكامله، حكومات تريد المجتمع هكذا وتريد أن تقتلك أو تحبسك، عندما عجزت الأديان عن حماية البشرية وظهر منهج التفكير العلمي تمكّن العلم من إيقاف الكوارث التي كانت تصيب البشرية رغم وجود الأرباب، ووجد أن المشاكل لن تحلّ سوى بالعلم.
مراجعات فكرية
الجديد: على مدار أكثر من أربعين عامًا قدمت الكثير من الجهود البحثية والفكرية. هل ثمة مراجعات فكرية عدّلت فيها من أفكار تبنّيتها في وقت سابق؟

* سيد القمني: المراجعات الفكرية سمة رئيسية لأيّ باحث حقيقي، فالثبات على المبدأ ضد مفهوم البحث. قد أتبنى فكرًا ما وأجد براهين أخرى فيما بعد فأنتقل إلى فكر آخر أكثر صحة. مثلًا.. كتاب “النبي إبراهيم والتاريخ المجهول” واحد من عثراتي الكبرى، كنت آنذاك باحثًا مبتدئًا يملؤني الغرور، تحدثت فيه عن هجرة مصرية في نهاية الدولة القديمة وسقوطها وتفتت مصر وانتشار الاستقلالات المحلية، وعثرت في البحرين على (أبو هول مصري وحية مصرية من الذهب)، واعتبرتهما من الدلائل على هذه الهجرة والحضور، كان هذا نوعًا من الفانتازيا. هذا الكتاب الذي أبهر الكثيرين أعتبره كتابًا شديد التواضع، ولم أعد طباعته لهذا الخطأ الذي اكتشفته أثناء عملي في كتاب “النبي موسى وآخر أيام تلّ العمارنة”.

أيضًا، هناك فصل في كتاب “الأسطورة والتراث” أخطأت فيه؛ ففي باب “الأساطير التوراتية” قلت إنهم سرقوا من التراث البابلي والفرعوني، الأدلة التي قدمتها سليمة، لكنني في ذلك الوقت كنت عروبيًا ناصريًا بشكل متزمّت فكنت أكره اليهود باعتبارهم خونة التاريخ وغيره، وكتبت بهذه العقلية أنهم سرقوا لكن الحقيقة أنها لم تكن سرقة، كان من الطبيعي في ذلك الوقت أن تتلاقح الأفكار. مثل هذه الأخطاء اكتشفتها بنفسي ولم ينبّهني أحد لها، لكن ما أسمعه من ردود أفعال ليس سوى هراء لا قيمة له.
كتابي القادم: إلحادولوجي
الجديد: وهل من اشتغالات فكرية جديدة تكتب عنها في الوقت الراهن؟

* سيد القمني: كنت أعمل على موضوع لكنني متوقف عنه منذ فترة، وصلت للفصل الثالث عشر من كتاب عنوانه “إلحادولوجي- تأملات ثانية في الفلسفة الأولى”، أقدّم فيه تأملات في الفلسفة الأولى، الوجود، متجاوزًا لديكارت، الذي لم يأت بعده شخص يقدم تأملات في الوجود. أهم شيء درسناه لديكارت كتابه “تأملات في الفلسفة الأولى” وهو مُكوّن من عشرة فصول بعشرة تأمّلات. في هذا الكتاب “إلحادولوجي” لا توجد مصادر أو مراجع، هناك عقل وفلسفة بحتة ومخاطبة للعقل المرتب، ولن يفهم الكتاب سوى هؤلاء الذين يمتلكون منهجًا ويعرفون الفلسفة. في هذا الكتاب أُزيّن اسمي في التاريخ بعد أن قدمته بشكل جيد طوال السنوات الماضية.
حال الأزهر
الجديد: قدت مؤخرًا دعوة لإدراج الأزهر ضمن المؤسسات الإرهابية. ما سبب ذلك الهجوم القويّ على الأزهر وشيوخه رغم الصورة العربية السائدة عنه بأنه مؤسسة الفكر الوسطي والمعتدل في الإسلام؟

*سيد القمني: مؤسسة الأزهر أشاعت عن نفسها تبنيها للفكر الوسطي، والناس خاضعة لهذا الفكر الذي حرّم عليهم التفكير، فانتشر الدجل والشعوذة. عُدنا إلى عبادة الأوثان في المسيحية والإسلام؛ فأصنام مكة لم تكن سوى وسيط بين العبد والإله وهذا ما يحدث الآن. ومن هذا يجنون أموالًا طائلة. إن كانت مهمة شيخ الأزهر هي الهداية فأنا أطلب منه أن يواجهني ويهديني أمام الناس في أيّ قناة فضائية، وأن يدير المناقشة محاور موضوعي، أو أن يكفّ عن تكفيري ويصمت.

من الغريب أن يعتقد الأزهر حتى الآن “أن السماء بها سقف” والله يجلس على عرش هناك ويحمله ثمانية ملائكة، وهذا السقف له بوابات بها أقفال، هذا ما يتصوره العلماء الذين تعطيهم الدولة من ميزانيتها 12 مليارًا شهريًا، كما تحصل وزارة الأوقاف على 8 مليارًات هي الأخرى. الأزهر يتحول إلى مؤسسة متغوّلة تأكل عقل المصريين وتقضي على وعيهم. إن كان ذلك حال المشايخ والأساتذة فكيف سيكون التلاميذ؟
ارجعوا لوظيفتكم
الجديد: لك العديد من المؤلفات التي أوضحت من خلالها رؤيتك لضرورة التعامل مع القرآن كنص تاريخي في بعض أجزائه وفي البعض الآخر كجانب أسطوري تراثي، وهو ما يخرج به عن القدسية. كيف تنظر إلى الاتجاهات التوفيقية التي تبناها البعض في تقسيم النص الديني إلى جزء تاريخي متعلق بالسياق التاريخي الذي نزل فيه القرآن، وجزء آخر متعلق بالقيم العليا وهو ثابت بتغير الزمن؟

* سيد القمني: أول من دعا هذه الدعوة التوفيقية هو المفكر محمد محمود طه السوداني الذي تم شنقه، قال إن الآيات المدنية مرتبطة بزمانها وتتبدل بتبدل الأحداث، أما الآيات المكية فبها قيم عليا يجب أن نلتزم بها لأنها تصلُح لكل زمان ومكان، مثل “لا تزر وازرة وزر أخرى”، “كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”، “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. أنا متفق جدًا مع هذه الرؤية، إن أرادوا أن يعيش الإسلام مزيدًا من الوقت، لأنه وفق الوضع الحالي لن يعيش أبدًا فهو الديانة الآفلة. الكنيسة تراجعت إلى أن قامت بوظيفتها الحقيقية في الإحسان للفقير وإغاثة المحتاج وغيرها من المهام. وأنا أقول “ارجعوا لوظيفتكم كي لا تخرجوا من التاريخ خروجًا مهينًا مثلما حدث مع جماعة الإخوان”. وأقول للمنادين بتطبيق الشريعة: إن أردت تطبيق القرآن كما هو أعطني حقوقي كاملة قبل تطبيق الشريعة. سبعون في المئة من فقة الفقهاء عن الجواري. لا أحتاج جنتهم تلك؛ فأنا لا أستطيع أن أجلس في الجنة دون أن أقرأ كتابًا مهمًا أو أستخدم الكمبيوتر وغيره.

مخاطبة العقل
الجديد: كثيرًا ما يُطلب من المثقفين أن يجنبوا العامة مناقشة الجدليات الفكرية المتعلقة بالأديان تجنبًا لإثارة اللغط وتشويشهم.. كيف تنظر إلى تلك المسألة؟

*سيد القمني: أرفض ذلك الاتجاه وأعتبره احتكارًا للعلم؛ فالعامة إن استخدموا عقولهم سيكونون من البارزين في عملهم. عندما يخاطب المفكّر أو المثقف رجل الشارع فإنه يخاطب عقله على عكس غيره من رجال الدين الذين لا يخاطبون سوى مشاعره وعواطفه. الناس تم إلغاء عقولها، ولا يجب أن نستسلم ونقضي عليهم. بنو آدم كرّمهم الله بالعقل وليس بالدين، وكل فرد لو وُلِد على دين مختلف لكان متعصبًا له طوال الوقت. العالم الغربي استطاع أن يراجع مثل هذه المواضيع بثورة علمية، أما نحن فلم يصل لنا العلم حتى الآن ولا نعرف عنه شيئًا. والحكومات الحالية تثبت كل يوم أنها لا تعرف شيئًا عن العلم ولا علاقة لها به. مثل هؤلاء أقول لهم اقرأوا فقط كتابا واحدا هو “التفكير العلمي” للدكتور فؤاد زكريا الذي صدرت منه العديد من الطبعات حتى الآن، أطالب بقراءة كتاب واحد فقط كي ينتقل هؤلاء من مرحلة “الحيوان” إلى مرحلة “العقل البدائي” للإنسان.
تدمير العقل
الجديد: تعاني الثقافة العربية من حساسية مرضية تجاه إعمال العقل في شؤون الدين أو الحياة خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الدينية.. ما السبب برأيك؟ وكيف يمكن التغلب على الحساسية الرافضة لإعمال العقل في الأديان؟

* سيد القمني: هذا صحيح فعلًا، وهو ما جعلني أمتنع عن الكلام يأسًا من الإصلاح. لقد غصنا مئات الخطوات في عمق البداوة منذ عهد الملك فاروق. نعتذر لصاحب النِعم الملك فاروق؛ فنحن في كوارث منذ أن انتقلت مقاليد الحكم للضباط في مصر. نحن نتكلم عن مجتمع تم تدمير عقله. ليس لدينا حلّ سوى في أتاتورك مصري أو رئيس دكتاتور مثل بورقيبة الذي ترك بلده تونس أوروبية متحضرة تتحدّث كلها الفلسفة. ركبت مع السواق في تونس وكان يحدثني عن روسو وفولتير ووجدته أفضل معرفة منّي لأنه قد قرأهم بلغتهم.

ظل ذلك الحلم بأتاتورك مصري يراودني إلى أن جاءت جماعة الإخوان إلى الحكم، وعندما جاء السيسي توقعت أن يكون تحقيقًا للحلم لكنني فوجئت به قد عيّن نفسه واليًا على ولاية إسـلامية.

كنت من المؤيدين للرئيس المصري السيسي طلبًا للخروج من ظلام الحكم الديني، واعتقدت وقتها أنه الحل الوحيد للخروج من ثنائية الحكم الديني والصراعات الأهلية، لكنني أقرّ بخطأي وقدمت اعتذاراتي وأعيد تقديمها؛ لقد كنت قاصر الرؤية في ذلك الوقت وخشيت أن تقع مصر في حرب أهلية فطلبت لها الأمان، أقدم اعتذاراتي لشعب مصر الجاهل نتيجة التعمية.. أنت شعب عبقري لو استخدمت عقلك، كتبت تاريخا جميلا ومواقف رائعة. وأدعو العرب لأن يستخدموا عقولهم ولا يستسلموا للكهنة سواء المسيحيين أو المسلمين، الذين لا يقدّمون شيئا يستحقون عليه الأموال الطائلة التي يحصلون عليها، ثم يتهمونني بخيانة الوطن لاعتراضي على سيطرتهم على عقل البشرية.
حيلة العاجز
الجديد: أظهرت الكثير من الرفض في كتاباتك لما أطلق عليه “الإعجاز العلمي في القرآن”، وهو مبحث انتشر في الأديان والمعتقدات الأخرى كالمسيحية والهندوسية، في الوقت الذي آمن فيه البعض بأنه مبحث يُقرّب بين الواقع العلمي الراهن وبين المعتقد الديني الراسخ.. ما سبب رفضك القاطع لمثل هذه المباحث؟

* سيد القمني: الإعجاز حيلة العاجز. الحيلة صاحبة العاجز غير القادر على العمل. المعجزة الحقيقية هي تلك التي تحدث على البرّ الآخر من الأطلنطي، نحن في العالم العربي نعيش في الأساطير ذاتها منذ آلاف السنوات، وفكرة التوفيق بين الواقع العلمي والمعتقد الديني ليست سوى استجلاب للرزق. أدعو المروّجين لمثل هذه الإعجازات أن يأتوا من المقدس باكتشاف علمي جديد لم يأت به العلم، وإلا فما يحدث ليس سوى تعطيل للعقل وحجب له عن التعلم، فهو يجعل الفرد غير راغب في التعلم لأن لديه كل العلم في كتاب واحد مقدس. فكيف سيكون ذلك الفرد الذي لا يعرف ولا يقرأ سوى كتاب واحد؟

إن كانت مهمة شيخ الأزهر هي الهداية فأنا أطلب منه أن يواجهني ويهديني أمام الناس في أيّ قناة فضائية، وأن يدير المناقشة محاور موضوعي، أو أن يكفّ عن تكفيري ويصمت

عار على الثقافة
الجديد: هل مات المثقف العربي حتى لم يعد له من تأثير حقيقي في مسارات المجتمع؟ أم أنه ما زال حيًا ولا بد أن نفتش عن وجوده من آثار أخرى له؟ ولو كان موجودا حقًا.. ما الدور الذي يتعين على المثقف العربي أن يقوم به في الوقت الراهن؟ وما هي أدواته في التغيير؟

* سيد القمني: ليس لدينا سوى المثقف الذي نعقد عليه الآمال، المثقف ليس بمفهوم مواقع التواصل الاجتماعي ولكن بمعناه الفلسفي. المثقف بالمعنى الفلسفي لا بد أن يعرف آخر ما وصل إليه العلم في الكيمياء والفيزياء الكميّة والأرضية، وأن يكون مُطّلعًا على الجغرافيا والتاريخ وغير ذلك من العلوم، ولديه منهج علمي صارم. إن لم يكن كل هذا متحققًا فيه فهو ليس بمثقف، هؤلاء الذين يدعون أنفسهم مثقفين عار على الثقافة وعلى رأسهم حلمي النمنم وزير الثقافة في مصر.

في الوقت الحالي لا يوجد مثقفون بالغنى والكفاية التي يمكن من خلالها تعزيز المساحة العقلية التي دمرها الفكر الغيبي على المستوى المسيحي والإسلامي. المواطن يعيش داخل الغيب. وعلى المثقف أن يكون معلّمًا بحق، ولكنّي أعتقد أن كل مثقفي العالم لن يقدروا على شيء بعدما تدمر كل شيء من علم وفن وتعليم؛ فمثلًا.. التعليم في مصر لا يخرج سوى السفلة والقتلة والمجرمين وقلة اعتمدوا على جهودهم الذاتية أما المعلم المصري فهو لا يصلح لأي شيء.
التفوق على الذات

الجديد: حصلت على جائزة الدولة التقديرية في العام 2009 وتبعتها دعوات عدة لسحبها منك.. كيف نظرت إلى تلك الدعوات؟ وهل من أسماء تعتقد بأحقيتها في التقدير من قبل الدولة في الوقت الراهن لما قدمته من جهود فكرية؟

*سيد القمني: عندما حصلت على الجائزة رفعت دعوى قضائية ضدي من قبل 18 محاميًا لسحب الجائزة بتهمة أنني كافر، وليس لأنني قدمت عملًا لا يستحق. وفوجئت بوكيل النيابة يوجه لي تهمة مخالفتي للشريعة في مطالبتي المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، فقلت له ما تقوله خيانة لقسمك الدستوري بأن تحترم القانون والدستور، الذي ينص في إحدى مواده على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، كما أنك لست مندوبًا للأزهر، وحُكِم ببطلان الدعوى.

أما الحديث عن الأسماء الراهنة التي تستحق التقدير، فأيّ ثقافة تلك في هذا الزمن؟ لم أجد شيئًا يبهرني منذ وفاة نصر حامد أبو زيد وخليل عبدالكريم وغيرهم.. سيد القمني الذي هاجموه طوال حياتهم لم يقدم إنجازا إلا وتفوّق على نفسه فيما يليه من أبحاث.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى