أنسليم كيفر يرسم كارثة العصر الحديث

فاروق يوسف

 

شرس وعنيف ومؤلم ومعذب وعاصف ومدمر وقاس أنسليم كيفر. الرسام الألماني الذي يقيم اليوم واحداً من أكبر معارضه في قاعة «وايت كيوب» الكبيرة في لندن.
يتجاوز كيفر بلوحاته كبيرة الحجم (أكثر من خمسة أمتار عرضاً وارتفاعاً) ومنحوتاته وتركيباته ومواده الجاهزة كل مفاهيم ونتائج الحداثة الفنية. ولكنه أيضاً يفعل الشيء نفسه بمفاهيم وتجارب ما بعد الحداثة. وهي المفاهيم والتجارب التي لا تزال مخلصة لتعاليم معلمها الألماني جوزيف بويز. لقد تخطى كيفر معلمه بويز من غير أن يلغيه.
في عدد من أعماله لجأ كيفر إلى استعمال الأحجار كما لو أنه يسعى إلى التذكير ببويز الذي رحل عن عالمنا عام 1986. غير أنه تفادى القبول والتسليم بعبثية معلمه، فلم يتوقف عند فعل الهدم بل قفز عليه مخلصاً إلى المعاني الكبرى التي ينطوي عليها الخراب الذي تعرض له عالمنا بسبب الحروب. «الخراب» هو عنوان أحد معارضه السابقة. ومع ذلك فإنه كان رمزياً في إعلائه من شأن المعرفة يوم أقام معرضاً كاملاً بعنوان «مكتبة بابل». الخرافات التي استعارها من الكتب المقدسة والحكايات الأسطورية دفعته إلى مناطق، تكثر فيها الخوارق، فكان بمستوى هاجسه في صناعة فن خارق، إعجازي. إن على مستوى التقنيات والمواد أو على مستوى الأفكار الصادمة بقدرتها على الإلهام.
في معرضه الحالي قدم أنسليم كيفر (1945) أعمالاً لا تزال رائحة الكارثة تنبعث منها. التقط التفاصيل ولم يفته أن يلحق الأذى بالعين التي ترى. العالم الذي اخترعه هو مزيج من مشاهد، منع الهلع البشر الذين عاشوها من رؤيتها بحجمها الحقيقي واستعارات صورية، سعى الفنان من خلالها إلى التسلل إلى جوهر الألم. يبدأ المعرض بالعتمة التي سادت معظم قاعات العرض، بحيث لجأ الفنان إلى صبغ جدران عدد من القاعات باللون الرصاصي من أجل أن تكتمل العتمة. أسرّة المستشفيات الحربية التي امتلأت بها الممرات تذكر بمواقع الجبهات الخلفية، بل تستحضرها في ذاكرة كل مَن أنصت إلى أنين الجرحى والمحتضرين. يمتزج غبار المعارك هناك بقسوة أن لا يملك المرء القدرة على أن يدير ظهره للعذاب. في كل سرير هناك سؤال يتعلق بقيمة حياة على وشك أن تغادر. السرير وحده يكفي. لن تبحث العين عن الألم في صيغته المجسدة على هيئة إنسان، استلبت منه الحرب غريزته في المقاومة.
في لوحاته الكبيرة، يحجب كيفر مشاهد المدن المدمرة بسطوح هي أشبه بالمطر الرصاصي الثقيل الذي لا يخفي أجزاء من تلك المشاهد، بقدر ما يثبتها في مكانها متنقلاً بها بين مختلف الأزمنة. ما لا تُمحى منها تلك الضراوة الإنسانية التي محيت من خلالها. الشوق المعذب إلى حياة، لم تعد ممكنة. كما لو أن الفنان كان قد قرر أن يستخرج عالمه من جوف ثقب أسود فقد عمد إلى نسيان الصورة مؤكداً على أثرها النفسي الذي يبقى خالداً بعد زوالها. وكأني به يقول: «ما من شيء يزول ما دام الفن حاضراً. حضور الفن يحفظ للتاريخ وقع هيبته المأسوية» تحدى كيفر في معرضه الحالي الفكرة التي تتعلق باستحالة وصف الألم. خيال الفنان يتفوق على تقنية الطبيب. ما يسعى الطبيب إلى تجميعه يفككه الفنان ليصيب عيوننا بشظاياه الجارحة.
لقد أنجز كيفر أعمالاً فنية هي في حقيقتها محاولة لتفكيك الأنين الخفي الذي يشكل فاصلة بين الحياة والموت في لحظة يأس. الحياة الثقيلة التي جسدها الفنان على هيئة تتمكن من التحليق مستعينة بجناحين نميا لها في لحظة، كان الموت ملهمها. أما الزهور التي لم تخفها الصرخة فإنها تظلل خيال أحد المحتضرين بما يذكر بقوة الحياة. في سلم حلزوني عال، جلبه الفنان جاهزاً تم تعليق ملابس لمختلف المناسبات لتوحي بالنشوة التي تنطوي حفلة الصعود في مقابل القسوة التي تتستر عليها حفلة الأسرة الأفقية.
الموت ليس غريباً على عالم كيفر. العلاقة بين الاثنين لم تتخذ طابعاً رمزياً. فبسبب ولعه بعالم الأساطير الشاسع وغير المحدود كانت لوحاته عبارة عن ملاحم، وجدت في عمليات الإبادة الجماعية مادتها التي لا تكف عن اقتراح حكاياتها. وهي حكايات لا تقف عند حدود المأساة، بل تشق طريقها في استمرار إلى ما خفي من وقائع عصفها المدمر. لا يخلو عمل من أعمال كيفر من ذلك الهاجس المأسوي الذي صار بمثابة لعنة، سودت بحبرها الجزء الأكبر من صفحات التاريخ. بهذا المعنى يكون كيفر هو الفنان الأكثر اشتباكاً بمعنى الموت بمفهوميه الأسطوري والتاريخي في عصرنا. فهو إذ يستعرض الموت في معرضه الحالي ينقب في الذاكرة البشرية بحثاً عن المواقع الأكثر ألماً وأشد قسوة في التجربة الإنسانية.
الأثر الصاعق والمتوتر والصادم الذي تتركه تجربة مشاهدة هذا المعرض الذي يستمر حتى شهر شباط (فبراير) المقبل إنما يقع بسبب قدرة كيفر على السيطرة على الحواس كلها وتوجيهها لترى وتسمع وتلمس وتشم الموت الذي يحيطنا من كل الجهات. هناك مكافأة وحيدة، هيأها كيفر لعشاق فنه مثل مفاجأة، هي تلك اللوحة التي تمثل حقلاً من الزهور، يشق الضوء طريقه فيه إلى الأعالي.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى