عندما تنجح السينما في تجسيد فلسفة الأطفال

خالد الكطابي

يعد فيلم «أون مونسترو بييني أبير مي» ثالث عمل إبداعي مميز في تجربة المخرج الإسباني خوان أنتونيو بايونا بعد فيلميه «المستحيل» (2012) و«دار الأيتام»(2007) .
وسيناريو الفيلم مقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الأمريكي والصحافي باتريك نيس، الذي قام بإبداعها بطريقته الخاصة سنة2011، لأن الرواية في أصل فكرتها تعود للكاتبة البريطانية سيوبهان دوود (1960-2007)، المصابة حينها بمرض السرطان ، حيث لم يسعفها الموت لإكمال عملها.
والرواية كما الفيلم يحملان العنوان الإنكليزي «أمونستر كولز»، أي زيارة الوحش لكنهما بالإسبانية يأتيان بعنوان قريب أكثر مما تعرفه مجريات الحكاية/الفيلم «أون مونسترو بييني أبير مي» أي وحش يأتي لرؤيتي.
يحكي الفيلم قصة الطفل كونور، ذي 13 ربيعا، الذي سيجد نفسه بعد انفصال والديه يعيش مع أمه المصابة بمرض السرطان. وتتعقد شخصية الطفل (لويس مايك دوغال)عندما يصبح هدفا للسخرية، حيث بدأت مظاهر تدمره النفسية بعد معاناته من قساوة معاملة أترابه في المدرسة، تضاف إلى ذلك الكوابيس التي أخذت تؤرقه بعد منتصف الليل بقليل، ما جعله طفلا مختلفا عن باقي أقرانه، ليجد ملاذه الآمن في الرسم.
مكوث والدته في المستشفى، بعد تفاقم وضعها الصحي، جعله يقضي معظم وقته في بيت جدته (سيغورني ويبر) التي لا تبذل أي جهد للعطف عليه، ما سيساهم في عزلته والبحث عن منقذ له بعد انسداد الأفق أمامه.
ويعرف التصاعد الدرامي حدته بالظهور المفاجئ لوحش ينبعث من شجرة الزرنب، المتواجدة قبالة حديقة البيت، بجانب كنيسة قديمة تضم أيضا مقبرة، حيث يسمع كونور ذات ليلة حالكة صوتا أسطوريا مقبلا من الخارج محدثا هزات رهيبة في نفسيته.. لكن بعد تهدئته والتخفيف من روعه سيشرح له الوحش سبب قدومه إليه ويقدم له عهدا بأن يحكي له ثلاث قصص فيما على الطفل أن يحكي واحدة.
يقوم الوحش، رمز السلطة القاهرة، برواية قصصه للطفل كونور، حيث يحكي عن أحداث مرت في الماضي، لكن التاريخ دونها كما أتت على الظاهر.
في قصص الوحش الثلاث دعوة مبطنة لإعادة قراءة الحقائق التاريخية، وتأكيد على أن كل حكي غير مؤهل للإحاطة بحيثيات الوقائع كما تمت في بداية تشكلها. وأوضح الوحش أسرارا غامضة ظلت حبيسة أنفاس أصحابها وضرب للطفل ثلاثة نماذج من الحقائق التي يعتقدها الناس، لكنها تبقى غير صحيحة، استنادا إلى نوايا أبطالها كقصة الأمير الشاب مع زوجة أبيه الملك، حيث بعد وفاة الملك الذي كان معروفا بحسن تدبيره لأمور مملكته، لكن بعد زواجه من امرأة شريرة جعلت ابنه الشاب يدبر مقلبا للتخلص منها.. فقرر الارتباط بشابة فقيرة ودبر أمر الهرب معها حتى لا يتعرض للقتل معها، وبعد عدة أيام ستتعرض الفتاة للقتل وستتهم الملكة بذلك. حسب الوحش فوقائع القصة كانت مدبرة فزوجة الملك رغم كونها شريرة إلا أنها لم تكن لديها القابلية والجرأة اللازمتان للقتل. وحب الأمير الشاب للفتاة الفقيرة كان ذريعة لكسب عطف الشعب وتهيئته حتى يثور على زوجة أبيه وإبعادها بتهمة تدبيرها لقتل حبيبته واستفراد الأمير بالحكم.
وتبلغ الحكاية ذروتها عندما يلجأ الطفل للوحش حيث يقوم باستعطافه ليقوم بأي عمل لإنقاذ أمه، لكنه يؤكد له عجزه عن فعل أي شيء.
يشكل الفيلم نقدا لكل اليقينيات مهما كانت طبيعتها دينية، سياسية، اجتماعية التي تهدف إلى إبراز وإخفاء ما يصلح لخدمة المستفيدين منها. ويرمي الفيلم من خلال قصص الوحش للطفل إلى إعادة التمعن والاشتغال النقدي على التاريخ الإنساني بصفة عامة، كما أنه يسائل بصفة خاصة الفرد كصانع وفاعل في مسار الأحداث التي تصير مع مرور الزمن جزءا من ذلك التاريخ الذي يحاصر الإنسان.
لقد توفرت كل العناصر لإنجاح عملية نقل الرواية إلى السينما من خلال اقتباس العمل الروائي الذي أبدعه باتريك نيس نفسه، حيث استطاع أثناء كتابته لسيناريو الفيلم أن يخلق دراما جعلته يقبض على أسرار شخصياته ويجعلها طيعة عند حكيه لقصتها مرئية ومسموعة ومتحركة على الواقع حتى إن بدت خيالية.
تقمص كل من مخرج الفيلم وكاتب السيناريو نفسية الطفل، حيث تمكنا من التطرق إلى كينونة النفس البشرية وصراعاتها الخفية ليقدمانه في طابع درامي/ تراجيدي ينتصر للأسئلة المقلقة والمحرجة أحيانا. وطرح الفيلم جوهر الفلسفة في ينابيعها الأولى باعتبار أن فلسفة الأطفال تأتي بقدر هائل من الأسئلة البريئة التي يعجز العالم عن استيعابها.
كما اعتمد المخرج الإسباني على التناقضات داخل شخصية الطفل وصراعه مع نفسه ما يدعو المشاهد للتعاطف معه نظرا لظاهر الأشياء، باعتبار أمه المريضة بداء خطير ووحدته والعيش مع جدته الصارمة، لكن الوحش سيكشف حقيقته عندما يواجهه بكونه يريد موت أمه في أقرب وقت حتى يرتاح من المعاناة التي يسببها له مرضها.
وشخصية الوحش، التي ترمز لسلطة المعرفة والقهر، لم تتمكن من مساعدة الطفل في محنته وترك الأم تواجه مصيرها المحتوم. كما أن الوحش جعل الطفل يتحمل مسؤولية التخريب الذي وقع في البيت بعد إقدامه في فترة غضب على كسر كل ما صادفه في حين توارى فيها عن الأنظار.
لقد حاول مخرج الفيلم أن يوفق بين الوضوح، أي تحقيق أكبر نسبة للمشاهدة، والغموض حيث صرح قائلا «على الرغم من كونها قصة لها عدة مستويات من القراءة، فنحن نرغب في أن يكون الفيلم في متناول الجميع وفي الوقت نفسه غامضا».
وفي السياق نفسه ارتأى باتريك نيس، كاتب الرواية والسيناريو، أن «الطفل كونور لا يمكن له أن يتحمل الألم الذي يثقل كاهله، وليس قادرا على التعبير عنه، وهذا في حد ذاته تناقض».
فيلم «أون مونسترو بييني أبير مي» يحمل داخله العديد من القضايا الإنسانية والفلسفية بالخصوص، حيث يمتح من الطفولة لتقديم رؤية الأشياء تغلب عليها طابع البراءة، لكنها معقدة في طرحها، ما يجعل البناء الدرامي للفيلم متعددا، سواء في كيفية كتابته السينمائية أو عند إخراجه. يقوم الفيلم أيضا على فكرة التحول/التطور الواردة في الرواية، كما في سيناريو الفيلم، المعتمدة على أسلوب الخيال المنخفض الموجه للأطفال، ما يمنح للتصاعد الدرامي/التراجيدي مبرراته في كشف التناقضات وإظهارها لتوضيح الوقائع وكيفية حدوثها، باعتماد توازن بين كل المستويات والإشكالات المتعددة التي تطفو على السطح أو تلك المبطنة الثاوية خلف الصورة، التي يتحمل المشاهد لوحده مسؤولية تأويلها..
ولتحقيق التوازن لجأ خوان أنتونيو بايونا إلى الاستعانة بغرفة المونتاج التي كانت حاسمة في منح الفيلم طابعا تراجيديا لتكسير رتابة السرد الفيلمي، حيث عمل المخرج لتحقيق ذلك إلى الاستعانة بالملحن الإسباني فرناندو فيلاسكيث، الذي تعامل معه في جل أفلامه، حيث منحت الموسيقى للفيلم في لحظات قوية إمكانات درامية هائلة، في الوقت الذي كان يسود فيه الصمت من قبل.
كما يطرح موضوع الألم الإنساني الذي لا يفرق، كما الموت، بين الجنس والسن مما يجعل الإنسان حائرا أمام هول الحدث إلى اللجوء، للاحتماء نفسيا، للقوى الغيبية التي حاول الفيلم تقديمها في طابع وحش يتحول من الطبيعة ليقوم بالكشف عن حقائق مغيبة.
لقد أبان خوان أنتونيو بايونا (برشلونة 1975) عن قدرة فائقة في تقديم رواية كان لها صدى واسعا أثناء صدورها، ولعل إعجابه بالرواية، وطريقة المعالجة لها عند كتابة السيناريو من طرف كاتبها، جعل المخرج يوقظ ذلك الطفل الذي يسكن داخله وينتصر جماليا للسؤال الفلسفي، حيث أجرى مقارنة مع بطل فيلم قائلا: «مثل كونور، فالتحدي بالنسبة لي كسينمائي هو العثور على الحقيقة». نجح المخرج الكاتالاني في نقل الخيال الأدبي إلى عالم الأحلام الضوئية واعتمد على نجوم قدموا عملا مختلفا على الشخصيات التي قدموها من قبل وبأسلوب سينمائي مغاير للمخرجين الذين اشتغلو معهم، فقد منح الممثل البريطاني ليام نيسون صوته لشخصية الوحش كما جسد انفعالاته عن طريق توظيف تقنية لاقط الحركة. وقامت الممثلة الأمريكية، سيغورني ويفر، بتجسيد دور الجدة، حيث اعتبر بايونا أنها «كانت مثالية في تجسيدها لدورها». كما جسدت الممثلة البريطانية فيليسيتي جونز، شخصية أم الطفل المريضة بالسرطان، حيث استطاعت بلمستها أن تقرب المشاهد من إحساس الألم والرغبة في المقاومة التي تعرف مسبقا استحالة تجاوز قدرها المحتوم. ولعب لويس مايك دوغال (2002)، في ثاني مشاركة له بعد دوره في فيلم «بان» سنة 2015، دور الطفل حيث ترك بصمة كبيرة على الفيلم، كما استطاع أن يتجاوز الحمل الذي أثقل كاهله كبطل للفيلم، كما نجح في التغلب على دهشة الوقوف أمام ممثلين كبار. بتوقيعه لفيلمه الثالث يكون خوان أنتونيو بايونا قد رسخ مكانته كواحد من أهم المخرجين الإسبان، الذي يتميز بأسلوب سينمائي مختلف يؤهله لكي يمثل السينما الإسبانية في باقي المهرجانات السينمائية العالمية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى