وثن الوظيفة ومجدها الغابر في عالم نجيب محفوظ

محمد عبد الرحيم

«إن الموظف مضمون غامض لم يُفهم على وجهه الصحيح بعد. الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محارباً أو سياسياً أو تاجراً أو رجل صناعة أو بحاراً، فهو في مصر الموظف. وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفاً مُعيناً من قِبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي، من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية. ووادينا وادي فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة، ولكن رؤوسهم ترتفع لدى انتظامهم في سلك الوظائف، حينذاك يتطلعون إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة لله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء». (عثمان بيومي في «حضرة المحترم»). هكذا تفلسف الشخصية الرئيسة في رواية «حضرة المحترم» قيمة الوظيفة وبالتبعية قيمة الموظف في الحياة، ضاعت الشخصية في النهاية لأنها جعلت من الوظيفة وثناً ومعبوداً أوحد، وبين هذا الاحتفاء الأعمى يصل الأمر إلى «علي عبد الظاهر» بطل «الحب فوق هضبة الهرم»، هذا العمل الذي كتبه نجيب محفوظ في نهاية سبعينيات القرن الفائت، وقت الصدمة الاقتصادية لما سُمّي بالانفتاح والتبعات الاجتماعية لانسحاق فئة الموظفين، وقد أصبح المُسمى يُطلق الآن على سبيل السخرية. وفي إطار الاحتفال هذه الأيام وتوافق الذكرى الخامسة بعد المئة لميلاد نجيب محفوظ (11 ديسمبر/كانون الأول 1911 ــ 30 أغسطس/آب 2006). وضمن مشاركة العديد من المؤسسات الثقافية المصرية في هذه الاحتفالية جاء إصدار دار الهلال لكتاب بعنوان «الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ» لمؤلفه مصطفى بيومي، الصادر هذا الشهر ضمن إصدارات كتاب الهلال. الذي يحاول من خلاله رصد شخصية الموظف وتحولاتها وصراعاتها في أعمال نجيب محفوظ، بما يعد إضاءة جديدة على عالم محفوظ الرحب.

المكانة الاجتماعية للموظف

لم يكن سوى التبجيل من جميع الفئات، حتى إن تمتع بعضهم بالثراء والهيبة. نحن الآن في منتصف العشرينيات، وحتى منتصف الأربعينيات ستظل هذه النظرة على حالها. نفيسة في «بداية ونهاية»، فلا يكون الإنسان محترماً إلا إذا كان موظفاً، ورغم أنها تعمل في خدمة هذه الفئة، إلا أنها لا تنسى أن والدها كان موظفاً في الحكومة. من ناحية أخرى نجد كرم يونس في «أفراح القبة» يتباهى بكون والده موظفاً، بينما امرأته والدها ساعي بريد. الوظيفة في تلك الفترة كانت تشبه الفاكهة المُحرّمة على الكثيرين من أبناء الشعب. وتأتي رواية «حضرة المحترم» لتصبح الوحيدة بين أعمال محفوظ التي تفسر السلوك النفسي للموظف المصري الطموح، الذي لم يعد يرى قيمة ومعنى حياته سوى في الوظيفة وعالمها، عالم الصراعات والمعارك والمؤامرات، وإرضاء الرؤساء والانتقام من المرؤوسين، عالم البحث عن السلطة في أنقى صورها. تتوارد بعض من هذه الصفات عبر العديد من الأعمال، ربما أشهرها شخصية (محجوب عبد الدايم) في رواية «القاهرة الجديدة»، الذي أصبح مثلاً للموظف القواد، فكراً أولاً ثم سلوكاً، وكلما زاد الفساد واستشرى، نجد أمامنا في الحياة هذه الشخصية بالضبط، وإن حملت أسماء أخرى. ومن هذه الحالة إلى الحالة الانهزامية كما في «خان الخليلي»، وكما يبدو (أحمد عاكف)، الذي يريد أن يصبح مؤلفاً، ويُجاهد دون جدوى، رغم تبجيل أصدقاء المقهى له نظرا لمكانته الاجتماعية.

الخمسينيات والستينيات

شهدت تلك الفترة التحولات الكبرى اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وتنوعت فئة الموظفين، من الانتهازية إلى الإقصاء التام. (سرحان البحيري) موظف الجيل الثوري، الذي آمن بالاشتراكية ليس قبل أو بعد الثورة، بل (معها)، يعد فاسداً كبيراً، ومختلساً للمال العام. يقابله (أنيس زكي) في «ثرثرة فوق النيل»، الذي لم يجد سوى الحشيش ملاذاً وحيداً للتغلب على الفساد السياسي والاجتماعي. يعود الأمر إلى (عيسى الدباغ) في البداية، الموظف المرتشي، الذي خرج من الخدمة في ما يُسمى بحركة (التطهير)، عيسى الذي يشعر بأنه يحمل هموم العالم، يُشارك في النهاية بالمقاومة الشعبية، فمصر لا يمكن اختصارها في شخص، وهي التي ستظل وتبقى. هذه الصراعات والتحولات القاسية لشكل وطبيعة الموظف المصري، تصبح في النهاية محل صراع مع المجتمع ككل، وهو الشخص البائس المغلوب على أمره، الضحية الأولى لعهد الانفتاح.

صدمة الانفتاح

يمكن القول إن شخصية الموظف المصري، وكما جسدتها أعمال نجيب محفوظ العديدة، وبعد الكثير من تحولاتها، إلا أن الضربة المهينة جاءتها في نهاية السبعينيات، بعد تبني نظام اقتصادي مختلف، فهو إن كان من قبل يحاول الحفاظ على مكانته الاجتماعية، أصبح الآن محل سخرية وانتقام الجميع ــ مقارنة نظرة التجار والحرفيين ما بين الأربعينيات وحتى الآن ــ فكل تبعات هذا النظام الخانق تقع على كاهله، ولعل شخصية (علي عبد الظاهر) في «الحب فوق هضبة الهرم» هي النموذج لما نحياه اليوم. وتعد وصفاً دقيقاً لجيل كامل وأجيال لاحقة من شباب هذا البلد، نعم الآن هناك المزيد من التغير في التحايل على الوضع الاقتصادي، كالعمل في عدة أماكن مثلاً، أو الاتجاه لأعمال حرة لا ترتبط بالوظيفة، لكن شخصية الموظف وتحولاتها ووصولها لما هي عليه الآن، لا تعد سوى الامتداد والنتيجة الحتمية لشخصية علي، هكذا صاغها محفوظ، وهكذا تنبأ بمستقبلها المظلم، وتبعات انقلاب المعايير والقيم الاجتماعية، في ظِل قرارات اقتصادية ترسم حيوات هؤلاء باللون الأسود.

الكتاب: «الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ» . المؤلف: مصطفى بيومي
الناشر: دار الهلال، القــاهرة/ديسمبر 2016. 209 صفحات من القطع المتوسط

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى