بير كيركبي رسام الزمن المعلق في عري مطلق

أبو بكر العيادي

ولد الرسام الدنماركي بير كيركبي في كوبنهاغن عام 1938، وبدأ يمارس الرسم منذ سن الرابعة عشرة، ولكنه كان يحلم في الوقت ذاته بأن يصبح عالما جيولوجيا، فكان أن سعى إلى التوفيق بين الاتجاهين، بين العلم والفن، ولما اشتد عوده التحق بقسم العلوم الطبيعية وبالمدرسة التجريبية للفنون بالعاصمة الدنماركية في الوقت ذاته.

ومنذ حصوله على دبلوم جيولوجيا القطب الشمالي عام 1964، بدأ يشارك في بعثات علمية قادته إلى جزر فارو والنرويج وأيسلندا وغرينلاند، وكان يدوّن ملاحظاته بسنّ جافّ مستعملا صفائح النحاس كصفحات دفتر يوميات حميمة، كان يخط عليها صورا عن خطوط الصدع، وكتل الغرانيت، وانهيار الأحجار وتجرد الأغصان.. لتشكل كلها بنى لتلك المناظر الخالية من العمران، يقوم بطبعها أو حفرها مائيا، فتتبدى كصور عن زمن معلّق وعري مطلق، ذلك أن كيركبي يستلهم فنه من جزر الشمال الخالية أو تكاد من حضور الإنسان، وقد انبهر بجزيرة غرينلاد في أول زيارة لها عام 1958.

وكانت قُنّة الجليد الضخمة العائمة على حافة المحيط المتجمد الشمالي اكتشافا مذهلا، عاد إليها بعد أعوام يحمل عُدة من صفائح الزنك ليحفر عليها أولى منقوشاته التي كان تدرب عليها في معهد الفنون الجميلة “إكس سكول” بكوبنهاغن. وكان ذلك عمله المؤسس، حيث غدت الملاحظة الجيولوجية لديه قاعدة تأمل مخصوص في المنظر الطبيعي، وهو ما أكده لاحقا بقوله “أرى لوحاتي كخلاصة بنى، مسار دائب للتطابق، شأن الطبقات الجيولوجية”.

وفي السلسلة التي أنجزها في غرينلاند مثلا، تبدو المسافة التي يقف فيها من المشهد أقرب إلى التجريد، كإيحاء بعالم معدني لم يبق منه غير عناصر هيكلية، صخور وأجراف وآفاق يكثف الفنان حضورها في بضعة خطوط.

جمع بير كيركبي إذن بين علم طبقات الأرض والكتابة والإنتاج السينمائي والرسم والنحت، ولكنه يعتبر نفسه فنانا قبل كل شيء. وخلال مسيرته الممتدة على مدى نصف قرن، كان دائم التنقل في مناطق الشمال الصقيعية، والاطلاع على التجارب الفنية السابقة، للوقوف على خصائصها، والاستفادة منها، حيث تضم مكتبته نحو ستة آلاف مصنف في الموضوع.
اهتم بطبيعة الحال بالجيل الدنماركي الذي سبقه، ولكنه اهتم أيضا بكبار الفنانين الفرنسيين والألمان، قدامى ومحدثين، ويقول في هذا الصدد “لي جدل دائم مع الفنانين السابقين: مع بيكاسو، وماتيس على وجه الخصوص”، تلك العلاقة الروحية تتجلى إحالاتها في بعض أعماله، كاعتراف منه بدور أولئك الأعلام في تطور تجربته.

وإلى جانب لوحاته وحفرياته ومنحوتاته العديدة، أنتج كيركبي عدة أفلام، وساهم مع لارس فون تيرير في تأليف كتب عن تجارب سابقيه، وعن رحلاته واكتشافاته، علاوة على قرضه الشعر ونشره، فهو بهذه الصفة عضو في الأكاديمية الدنماركية للآداب منذ 1982.

ومع ذلك لا تغنيه تلك الأنشطة عن بحوثه التشكيلية وسعيه إلى معانقة الطبيعة، ثيمته المفضلة، حيث يقول “الطبيعة تملكك، ولا يمكن أن تتجنبها”، وغالبا ما يستوحي من قشور الأشجار وحركات الماء في “الفيورد” وتنقل السحب، واندياح الضباب لغتَه الفنية، حيث تمتزج الأشكال والتجريد، طبقة على طبقة، في نوع من التناغم المضيء، الزاخر بالألوان. لم ينخرط كيركبي في أي تيار، ولكنه لم يرَ غضاضة في الاستفادة من التيارات العالمية السائدة، كـ”البوب آرت” و”التقليلية” كما في أعماله على ألياف الخشب الصلبة، التي جاءت في شكل كولاج، والموتيفات المستوحاة من الأشرطة المصورة، وحتى من السينما.

ومع ذلك، فإن الطاغي على أعماله هو ذلك الحوار الذي يجريه بين الفن المعماري والطبيعة، حيث يستغل عناصر مخصوصة من الأرياف الدنماركية ليصوغ منها قطعا أشبه بالمنحوتات، يعرضها موضوعة على الأرض، وكأنه يوحي لمن يشاهدها بأنها ملتحمة بالتربة، تتغذى منها، وتعود إليها.

وتتبدى معرفته العميقة بالجيولوجيا في تقنياته، حيث تظهر على لوحاته أحيانا أكثر من عشرين طبقة مرصوفة بعضها فوق بعض على غرار ما تتركه الطبيعة على الأشجار والصخور من ترسبات وطبقات تتراكم على مر السنين.

وبير كيركبي الحريص على حريته، برفضه الانتماء إلى أي تيار فني أو مدرسة جمالية، ينبذ أيضا التنظير والتعليق على فنه، لأن الفن في رأيه “أبعد من الذكاء ومن الأفكار، وأن اللوحة هي التي ينبغي أن تتكلم وتفكر”.

ويضيف “إن كنت قادرا أن أفسر لماذا وجدت بعض الأشياء في هذا المكان من أعمالي دون سواه، فذلك سيّء، ينبغي أن تُترك اللوحة وشأنها، أن تصبح لغزا يتأوّله من يشاء على هواه”، ذلك أن اللوحة في نظره ليست منتجات صناعة تقليدية تخضع للموضات العابرة، بل هي خارج الزمن، وخارج فكرة الذوق، والأعمال الفنية الحق، في رأيه، منفلتة على الدوام، سواء من جهة الشكل أو من جهة الأسلوب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى