‘التراب والألوان’ .. نظرة متفحصة لخبايا الحياة المعاصرة

قاسم ماضي

الشعر لا يكون مثالياً، ولأنه ليس مرهماً شافياً، وليس رسالة عاطفية، ولا نوعاً من المعالجة اللغوية، فقد انطلق الشاعر المغترب “حرب” الذي زاوج بين الشرق والغرب عبر رؤية شعرية منسجمة مع هذا العصر البغيض الذي طغت فيه الكراهية، واقعيته وتأمليته ناتجة عن بحث دائم، ونظرة فاحصة لما يحيطه ُفي عالمه الإغترابي.

“على باب الغابة غول، دخيل، إذا دخلها ابتلع الغابة، ومن فيها، الشجر َ- المطر – الطيور”. (ص44).

ويبدو شاعرنا ألبرت عبدالله حرب الذي اعتنق الفلسفة، وحرك سفنه الكبيرة في مياهها المتحركة، مما أصبح يمتلك القدرة على التذكر والتوصيف والتقاط الكثير من مشاهد الحياة التي يعيشها، وكذلك وفّق في ضبط قواعد الشعر المرن وتنقلاته عبر الحدود التي لا يمكن اقتفاؤها بسهولة، فتجد عالمَ قصائده هي بمثابة مفاتيح للكثير من العوالم المغلقة، وهو الذي يقول في بداية مجموعته الشعرية الصادرة من دار الفارابي وهي من القطع المتوسط وتقع في 112 صفحة، وباللغتين العربية والانكليزية:

“هذه لغتي تفهُمها العصافير، وهذه النجوم القصية، وهذه حروفي تولد، من رماد الشمس البهية”.

وكما يُقال في العديد من مصادر بطون الكتب التي نبحث في داخلها من همومٍ مآسٍ لهذه الحياة الفانية “وما قول الحكيم إلا دوافع نفسية” فتجد قصائد الشاعر اللبناني “حرب” بلغته الرقراقة والتي تُدخلنا في نسق ٍ جديد لمعاني الحياة المختلفة، ومعرفته بالحياة في مختلف توجهاتها العامة وكذلك الخاصة، فهو يحمل نفساً فلسفياُ فيه الكثير من الميتافيزيقا لما يجدهُ من صراعات وما يحيطهُ من أباطيل المجتمع وخزعبلاته وتُرهاتهِ.

“يبسني الغيث، صرتُ صنماً من غُبار ٍ واندثار، معلقاُ في الفضاء متجمداُ في داخلي سكنت كل معالم الانهيار، والجحيم ُ كلَ الجحيم انتظار”. (ص72).

يقول عنه الدكتور رامز الحوراني أستاذ النقد الأدبي وعلم اللغة الحديث في الجامعة اللبنانية “نستقرئ ذبذبات التوتر في قاع الشاعر، فهي ترسم لنا الخط البياني لتضاريسه الداخلية، فهو الذي مدَ جسدهُ حصيرة لوطنه وأبنائه في المهجر، ولكنه كُوفِئ بغابةٍ من النصال ومع كل ذلك ظل وردة تروي ظمأها بالدموع”. (ص18).

” ها قد سكت َخطاب ُالكلام، وهطل مطرُ الأصنام، فأستفقت في سجن الأحلام، ومشى خلفي من كنتُ، وأمامي مشى من سأكون، وحّدني هذا السكون، وحدني هذا السكون، أعتقني الجنون، وصرتُ ابهى”. (102).

هذه القصائد القصيرة التي اشتغل عليها الأديب اللبناني “حرب” هي بمثابة رسائل ملغزة ومفعمة بأجواء الأثارة والأسئلة التي أراد لها أن تكون مجموعة من الإستغراقات في التفكرات والتأملات المكثفة، لأن الإلهام الفكري يخلد القصيدة والشاعر بأسره.

“لغة تسكن ُالضوءَ، تشعلُها الأمطارُ، ليت للعمر أن يُدركَ، أننا لم نعد ثوارا”. (ص31).

وتتصاعد التنهدات محملة بنشيج إنساني رحب وتبلغ الثورة مداها بالدعوة إلى تعقيم تراثنا الذي يلتف حول أعناقنا خيوطاً عناكبية. وهذا واضح في الكثير من قصائد الشاعر ومنها “الوطن في فنجان قهوة”، “لئام التنين”، “خلاص”، “ظلال ثقيلة”، “غريب” وغيرها من القصائد “فلتشهد الظلمات ُ أنني لستُ من هذا الخراب، وأنني أرى من حولي، ألواناً في التراب”. (ص82).

ومما يؤسف له وخاصة في عالمنا الإغترابي لا يوجد اهتمام نقدي وإنساني بالطاقات الأدبية من أمثال الشاعر والأديب “حرب” وغيره التي تقدم عصارة جهدها الفني والأدبي للعالم أجمع، بوصف الشاعر كيانا ًإبداعيا ًوإنسانياً، لأن هذا عصر المادة هو الذي يحرك الكثير من المفاهيم المغلوطة، محاولاً بذلك طمر مبدعي المرحلة الحرجة التي يعيشها عالمنا العربي. وخاصة الآن تجلى الحقد الباطني من قبل أعداء الإنسانية وقوى الشر التي تتحكم بمصير هذا العالم فسالت الطرقات بأنهار الدماء.

“هذه الأوراق ُحروف، ليس فيها شعر ٌأو أمان، فيها الحروب ُتشقى وفيها السلام، كلمات تكتُبُها الرمال ُوتقرأها الشطآن، لا يخرج من نهرها الدافق سوى الدخان، وألوان ٍتُرى في الظلام”. (ص 112).

ويمكن الاستفادة من هذا المطبوع الذي بين يدي فهو للجميع وخاصة لتلك الاجيال من أولادنا في هذه الغربة، الذين لا يجيدون قراءة اللغة العربية فهو يظهر على نصفين فالاول مكتوب باللغة العربية، والثاني باللغة الانكليزية، لأن الشاعر “حرب” يصبو الى تجسيد أهدافه وأفكاره شعراً، لذا فإننا نستطيع أن نقول بأن شاعرنا شاعر مضمون أولاً، ولغة عالية وفيها من الموسيقى الكثير، ويدخلك في عوالمه الكثيرة عبر صور منتقاة بعناية تعكس لنا موسيقى الحياة والطبيعة وما يجري على أديم هذه الارض من صراعات واحترابات، لذا فقد اشتغل الشاعر على التضادات في المترادفات اللغوية وعلى التناصات الادبية مقتبسا ًمن بعض الأساطير والنصوص عبر توظيف معاصر فضلا ً عن شيء من الاستعارات القرآنية التي نُسجت لتعكس بعدا ًدلاليا ًجديدا ًضمن اشتغالات اللعبة الشعرية التي تمظهرت جُملها في قصيدة الشاعر اللبناني “حرب” بفضيها الشاعري.

“ستون حولا ً مضى، وطنه سحابة في العراء”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى