وظائف الراوي في ‘ملاحظات عابرة’

هيام الفرشيشي
“ملاحظات عابرة” مجموعة قصصية لبلقيس خليفة صدرت أخيرا عن دار زينب للنشر، تتضمن العديد من القصص: حكاية عربي، الفقدان، المزاد، إنا قادمون، حديث العودة، بافاروتي، رائحة الورد، لجنة الحي، اعترافات صادقة لرجل كاذب، شهادة تقدير، الظل، سلسلة المفاتيح، رقم حظي، محاولة في الإبداع، في المحطة، شهيرة.

هي قصص تطغى عليها الهموم العربية والوطنية والاجتماعية. شخصياتها واقعية صورت بطرافة ممزوجة بالسخرية، مع الاشتغال على وظائف الراوي الذي برز في أشكال مختلفة، ليتخذ سرد القصة أكثر من طريقة وعبر أكثر من صوت. منها ملاحظات عابرة ترصد نقطة التحول في الأحداث.

في قصة “محاولة في الإبداع” تتحدث الرواية عبر السرد الذاتي عن اكتشافها لعدم جمال وجهها وجسدها منذ طفولتها فانصرفت للدراسة وتميزت فيها ولم تحظ بعلاقات عاطفية ولا الزواج فأرسلت قصتها الى جريدة معروفة.

في الخاتمة يظهر راو مجهول يوضح ويعقب أن قصتها لاقت ردود فعل القراء ورغبتهم في الزواج منها فانتقت مدير بنك. أما التوضيح الثاني فهو عدم انصرافها للكتابة بعد الزواج، فتعقيب آخر يبين أن زوجها اكتشف أنها نشرت عرض زواج مع شخصية تليق بمركزها الجديد.

تقدم الكاتبة أحداث القصة من خلال راو ذاتي وراو خارجي مجهول. وظيفة الأول الكشف عن عقدة الشخصية ووظيفة الثاني هي إبراز ذكاء الشخصية في تطويع الواقع. حتى ان القارئ وهو يتفاعل مع معاناة الراوي لحكايته المروية يباغت بتصاعد وتيرة السرد من خلال راو ثان. فالاعتماد على راو ذاتي وآخر خارجي مجهول هدفه إنارة الحدث والكشف عن الشخصية من الداخل والخارج عبر تعدد الرواة.

في قصة “شهيرة” فإن وظيفة الراوي المتكلم بضمير الأنا ليس من أجل سرد حكايته وإنما حكاية شهيرة بدءا من الدراسة الجامعية والمبيت الجامعي وقدرتها على التسلق الوظيفي والاجتماعي، وإخفاء العيوب الخلقية بالمساحيق وارتداء الملابس المناسبة.

أخبرنا الراوي الذي ورد في صيغة المؤنث أيضا الإشفاق على شهيرة حين سقط النظام وحزبه الحاكم، لكن هذا لم يمنعها من الصعود والتسلق من جديد من خلال انضمامها الى الحزب الحاكم الجديد.

الراوي الشاهد على الأحداث هنا قناع لكاتب متخف يكشف عن شخصيات واقعية متلونة قادرة على التأقلم مع كل النظم وخدمة أهدافها.

كما يبرز الراوي أنه يفوق شهيرة ذكاء وجمالا ولكنه لم يسلك السبل الملتوية، ومن هنا تنكشف رؤية الراوي من خلال شخصية شهيرة ومن خلال الاعترافات بين ثنايا القصة. إذ تتداخل زوايا نظر الراوي من الداخل ومن الخارج فهو شاهد عن الأحداث وهو مستنكر لها أو يدمج فيها ذاته بالتعبير عن مشاعر متداخلة مثل الشفقة، المحبة، الاستنكار.

وظيفة الراوي هنا إخبارية أيضا باعتباره محيطا بالأحداث. ولكنه لا يقدم الأحداث بحيادية. بل يمزجها بانطباعاته.

في قصة “رقم حظي” تشعر الراوية أنها محظوظة رغم قساوة العيش والاستغلال وتبني الأثرياء منظومة الشرف، وصيغت بأسلوب ساخر تهكمي فكل ما وصلت له حالة الشخصية مصبوغ بالسخرية السوداء حد الملهاة. ومن هنا لا نستطيع أن نفصل الراوي عن رؤية الكاتب أو الكاتبة صاحبة العمل وهي تنقل صورا حياتية صادمة بطريقة فيها الكثير من الانحراف الفني، أو تجميل ما هو مشوه في حياتنا لنكتسب القدرة على البقاء والاستمرارية. بل تمتص الحمولة المأسوية من شخصية القصة التي بدت محظوظة، نوعا ما. ثم انها لا تقدم رؤية واحدة لواقعها فهي تعرض الصور القبيحة ثم تعرضها من زاوية مخالفة. فهي تتبنى قضية شخصية القصة وفي نفس الوقت تتوخى تقنية الراوي الذي يتحدث بصورة مخالفة عن رؤية الكاتب، وهنا تجعل الراوي في خلاف عن المرجعية العامة للواقع. فالشخصية في هذه القصة مستقلة عن الواقع بل تنكشف أثناء عملية السرد.

قصة “بافاروتي” المسرحي الشاب الذي أغرم بالتمثيل واكترى محلا من أجل التدريب على التمثييل والتصوير سجن بتهمة التحريض ضد السلطة واتهامه بعلاقته باختفاء استاذه، وبعد الاعتقال والتعذيب خرج مجرما.

الراوي للحكاية أمه التي كانت تتحدث لمبروكة وهي تتجمل بالحناء ونتف الحواجب لاستقبال زوجها الذي سيغادر بدوره السجن في العفو العام بعد الثورة بعد اتهامه بالتطرف الديني سابقا وتكفلت برواية قصته ايضا.

وظيفة الرواة مضمخة بالعواطف وإثارة التفاصيل الانسانية وتبرئة كليهما لابنها او زوجها وتحميل التهم للنظام السابق، ولكن في الملاحظات العابرة آخر القصة وعلى لسان الراوي المجهول تبين أن بافروتي تحول إلى سلفي وهو يتصدى لعرض الاحتفال باليوم العالمي للمسرح وتعنيف أحدهم الذي كان أستاذه في الإخراج المسرحي.

فوظيفة الرواة هنا لسرد للأحداث من الداخل والخارج، ليضطلعوا بوظائف ايديولوجية وتوثيقية.

في قصة “الفقدان” التي سردت على لسان الراوي الذي قرأ رواية التحول لكافكا ثم اختفى عضوه الذكوري، وقال له الطبيب إن عضو الأنثى متخف فيه، ثم تنتهي القصة بملاحظات عابرة والراوي المجهول يتحدث عن إغلاق معبر رفح في مصر والتصدي لتهريب المساعدات للفلسطينيين العالقين في الداخل.

فالسرد الداخلي يتحدث عن التحول الحضاري العربي/ التخنث. أما الراوي المجهول فهو يبرز لنا صورة واقعية للقرار السياسي العربي المتخنث.

“ملاحظات عابرة” اشتغلت فيها القاصة بلقيس خليفة على وظائف متنوعة للراوي لتسرد القصة عبر أكثر من منظور اجتماعي ونفسي وعبر أكثر من منفذ لإيصال أصوات الرواة المتعددة.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى