نجوت… للكاتبة سنابل قنو

خاص (الجسرة)

 

كنت طفلة ساذجة ، أشبه الكبار، و كانت أمي تروض لساني بطريقة قاسية، بقيت طفلة و زادت حدة شتائمي.
قبل إنهائي عقدي الأول كنت أخرج يومياً للشارع في فترة المساء، أقصد محل يبيع الحلويات، آخذ منه حبة من أي شيء و أنظر للشاب الواقف في الزاوية يكنس الأوساخ التي أخلفها أنا و رفاقي بعد إنتهائنا من الأكل.
جلست طويلاً أراقب الفتيات بينما يلعبن “الحجلة” أو “المطاطة” ، سرعان ما كان يأتي جاري الصغير و يأخذني للوادي حيث الأولاد لألعب معهم، من هنا صادقت الذكور، لم أكن ذكية لأقترب من الإناث وكنت أضعف من أن أقاوم شغب الوادي.
بلغت في سنٍ مبكرة جداً، و أصبح جسدي سبب كاف لخوفي من الشارع، حاولت وقتها أن أدخل لعوالم أخرى أكثر دهشة وجمالا؛ فبدأت ممارسة رياضة أحبها كثيراً و في نفس الوقت اقتربت من دراستي أكثر و أحبني أو أحببت الشاب الذي كان يكنس المحل. هكذا عشت مراهقتي، كنت ألعب بالماء و أكتب المسائل لأطمئن على ذكائي وأهذب أنانيتي بالحب.
مرت فترة طويلة و أنا على نفس الحال، لم يتغير شيء سوى الماء، أصبح أكثر برودة أو أن جسدي ما عاد يحتمله أو ربما لم أكن جديرة به، فأخذ في طريقه الكتب و الإنسانية.
بدأت العقد الثالث بعجرفة غبية و مبالغ بها، سببها أنا أو من كانوا حولي، مرت سنوات دون شيء جميل يذكر، إختبرت فيها الشر و الأنانية والفشل وقلة المسؤولية رافقتني صفات التخاذل والغباء والتشتت. حتى القراءة كانت كاذبة مثلي.
وقتها كانت الحياة تقف بكلمة صغيرة وتتدحرج بجلسة واحدة، كانت المبادئ مرنة ويمكن التعامل معها على أنها مفاتيح، حتى الأسماء كانت شفافة ولا تصلح للاستخدام إلا مرة واحدة كالجوارب النسائية.
أفهم جيداً كيف يمكن لفتاة أن تجرب كل أنواع التطرف لتحصل على كرامتها وتقدير الذات، وكيف تخوض في كل النقاشات لتربح صوتها والحضور، وكيف لها أن تصلي الفروض كلها لترى وجه الشارع و الحرية.
أعرف أيضاً كيف تتبدد الوعود إن كان الحجر الواقف بوجهها جميل وكيف تموت كل المسببات إن كان الهدف لذيذ وكيف تقال الجمل المعسولة إن كان القبيل طيب القلب.
لكنني نجوت! أنا نجوت من كل المسارب وفهمت جيداً كيف يمكنني أن أعيد التجارب كلها بصدق وكرامة.
نجوت من الأسرار  ووجع الذنوب وقلة الخيارات.
نجوت من الأنا والنحن وكذب المجتمعات.
نجوت من المسارب الكثيرة وفقر المركبات.
نجوت من كل المفاتن التي أرادتني صديقة.
نجوت بالتمرين؛ أتمرن على التنفس جيداً وبهدوء.
نجوت بالجلوس مع نفسي لأستمع بفن للفتيات والرجال الجالسين في جوفي.
نجوت بالقرب من الحروف الحزينة لأدرب قلبي على استيعاب كميات الدم الهاربة منه.
نجوت بالخوف من الوقت فرافقته، أخوض حرباً نفسية معه لكنه صديقي المقرب.
نجوت بالحب، أحب كل الأشياء من بعيد
كل ما ذكرته حبيبي إلا أن المشهد القريب متعب و لا أحب النظارات الطبية رفيقة في سني هذا…
نجوت و أنا الآن بصحة جيدة يا أمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى