اضطرابات متداخلة تنسج الحراك التشكيلي للبنان المأزوم

ميموزا العراوي

شهدت السنة التشكيلية اللبنانية 2016، التي شارفت على الانتهاء، أكثر من سابقاتها غزارة في الإنتاج الفني بشكل عام والمعارض التشكيلية بشكل خاص، وليس هذا الازدياد دليلا على الاستقرار والرخاء فحسب، بل أيضا على تصاعد حدة الأزمات وانتشار القلق كحالة حياتية مُكرسة، باتت لها قوانينها المرعبة والمعتمدة.

بعض النشاطات التشكيلية وورش الأعمال الفنية خاصة تلك المتعلقة بالعلاج بواسطة الفن، أو بعلم النفس وعلاقته بالبصريات ازدادت بشكل كبير ولاقت إقبالا شديدا من مختلف الأعمار، وكأن بيروت تقول بلسان الكاتبة والفيلسوفة الأيرلندية جان إيريس موردوك “الفن والتحليل النفسي وحدهما يعطيان المعنى للحياة، لذلك نحن مولعون بهما، دونهما لا هيئة ولا معنى للحياة كيفما نحياها”.
عودة الغائب

يمكن القول إن الحراك التشكيلي في بيروت سنة 2016 يجب تأمله من مسافة حيادية ما، فقط حينها سنلاحظ أمرا لم يكن حاضرا في السنوات القليلة السابقة، وهو عودة الغائب الأكبر، أي الفن التشكيلي اللبناني، ليس كمجرد حضور لافت، بل كعاقد للوصال ما بينه وبين كل المعارض التشكيلية التي أقامها فنانون تشكيليون سوريون وفلسطينيون وعراقيون.

وحينما نقول إنه عقد للوصال نقصد به المعنى الفلسفي للكلمة، وليس بمعنى أي كلمة جسور تتيح التنقل بين مختلف الأنماط الفنية.

منذ اندلاع الثورات العربية، بغض النظر عن نتائجها، اجتاح لبنان عدد هائل من الوافدين القادمين من البلدان المجاورة، لا يهمنا في هذا السياق التكلم عن مختلف الفئات الشعبية الوافدة بقدر ما يهمنا لفت النظر إلى الفنانين منهم، والذين وفدوا إلى بيروت محمّلين بشتى أنواع الأحلام والجراح، والغضب والحزن والشكوك وغيرها من المشاعر التي تغذي العمل الفني بكل أشكاله أكثر من أي مادة أخرى، حتى وإن كان ما يغذيها أيضا هو مختلف التقنيات الفنية العالية التي تميز بها نصهم الفني بشكل عام.

لا يخفى على أحد أن عددا كبيرا من الفنانين التشكيليين اللبنانيين شعروا بنوع من الامتعاض لسيطرة أعمال هؤلاء الفنانين على معظم صالات العرض، إن كانت في شكل معارض فردية أو جماعية.

لم يؤدّ ذلك، والحق يقال، إلى ازدياد نشاطهم الفني، بل أدّى إلى نوع من الانكفاء في السنوات السابقة، أما خلال هذه السنة فثمة عودة قوية إلى الساحة التشكيلية للفنانين اللبنانيين، ويمكن التأكيد أن صالات العرض اللبنانية استشعرت هذه الذبذبات السلبية التي أرسلها الفنانون التشكيليون اللبنانيون، فحضر نوع من الصحوة لدى تلك الصالات حول دور الفنانين، ليس العريق في تكريس الفن والنهوض بتطوراته بشكل عام في كل المنطقة العربية فحسب، بل أيضا دورهم في دعم التجربة اللبنانية التشكيلية بشكل خاص والتي كانت من أوائل التجارب الفنية التشكيلية في العالم العربي.

وبما أن الكثير من الحوادث أو الظواهر في الحياة التي تبدو لأول وهلة أنها سيئة أو مستحيلة يمكن -وكثيرا ما يحدث ذلك- أن تنبثق عنها حالة إيجابية أو تفاؤلية، كما حدث في لبنان خلال هذه السنة، إذ يحق القول أن الفورة التشكيلية الشرق أوسطية وتأجج إنتاجها على الساحة العالمية واللبنانية أديا في نهاية المطاف إلى “إيقاظ”، أو تحفيز عودة الغائب من غيبوبة الملل لسنوات عديدة، قد عرفت ازديادا لنشاطات فنية أخرى على حساب الفن التشكيلي.

كما لا بدّ من ذكر عامل آخر حرك النائم في نفوس الفنانين التشكيليين اللبنانيين، وهو عامل لا بد من الإشادة به، والمتمثل في طغيان المخزون الثقافي/ التراثي الذي انطلق منه الفنانون الوافدون بشكل إرادي أو لا إرادي، وتجلى في أعمالهم التشكيلية المختلفة إلى جانب أثر الواقع المأزوم الذي تعيشه بلدانهم في نصهم الفني.

هذا العامل الظاهر أو الكامن في أعمالهم الفنية والذي ساهم في الإعلاء من شأن خصوصيتهم الفنية، أدّى بطريقة مباشرة، وأحيانا غير مباشرة إلى إيقاظ مفهوم الهوية اللبنانية/ العربية عند الفنانين اللبنانيين بعيدا عن تأثيرات الغرب البحتة والمُطلقة التي وضعت بصماتها عميقا في الفن التشكيلي اللبناني، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة قبيل حدوث الثورات.
صوت داخلي

جاءت الأعمال التشكيلية للفنانين اللبنانيين سنة 2016 عبارة عن مزيج من التجارب الماضية والجديدة التي تتعلق بهم، سواء المباشرة أو غير المباشرة المرتبطة بحوادث المنطقة، مما أدى إلى نشوء فن “فلسفي” من ناحية حضور الخبرة إلى جانب نضارة التجربة المقرونة بالعودة إلى الإصغاء للصوت الداخلي الذي لا يتكلم إلاّ باللغة العربية/ اللبنانية.

كما حضرت في هذه الأعمال القوة التقنية إلى جانب الجرأة في التجريب الفني، الأمر الذي اشتهر به اللبنانيون على جميع الأصعدة.

يتكون المجتمع الفني التشكيلي غير اللبناني من الفنانين القادمين من الدول المجاورة، وهؤلاء الذين مكثوا فيها لفترة من الزمن، والذين غادروها في هجرة إلى بلد غربي، وآخرون استقروا فيها، أي في بيروت ليعيشوا تعدديتها وجنونها الأخاذ.

بعضهم تأذى منها، لا ينفع نكران ذلك، لأن بيروت لمن لا يعرفها حق المعرفة هي مدينة جارحة ومُحبة في الآن ذاته حتى لأهلها، لا يمكن تصنيف قوة الحب الذي نكنه لمدينة كبيروت بحسب ما تقدمه في المقابل إلى أهلها أولا وإلى زائريها والماكثين فيها ثانيا، إلاّ أصبح التعادل ما بين ما يقدمه المُحب وقدر ما يتلقاه المحبوب مجرد مباراة لإثبات من يحب الآخر أكثر. بيروت بدورها لقنت الوافدين إليها أن الحب جارح بقدر ما هو معطاء وحنون.
لقاء الروافد

شهدت بيروت معارض تشكيلية لفنانين لبنانيين وعرب وغربيين، منهم المخضرمون ومنهم المعاصرون، من الفنانين من تابع مسيرته ضمن النص الفني الذي عرف فيه مع تطور لافت في التقنية المستخدمة، نذكر منهم الفنان اللبناني مارون حكيم والفنان اللبناني الأرمني زهراب، والفنان اللبناني جميل ملاعب ومنهم من أدخل أفلام الفيديو والتجهيز الفني ضمن معرضه ليصبح العرض تجربة فنية شاملة، تكثف وتدعم الأفكار المُراد التعبير عنها، نذكر منهم الفنان اللبناني شوقي شمعون والفنان صمويل شربل عون حيث جاءت أعمالهما مليئة بالزخم اللوني ومعنية برصد الفساد البيئي الذي عرفه لبنان، خاصة خلال هذه السنة. لائحة الفنانين اللبنانيين تطول ونذكر منهم أيضا الفنان نبيل نحاس، والفنان حسان الصمد، والفنان نصري الصايغ، والفنانة غادة الزغبي، والفنان نديم كرم والفنان عمر فاخوري، والفنان رؤوف رفاعي والفنان مازن رفاعي.

الأكثرية الساحقة من المعارض التي أقامها الفنانون التشكيليون اللبنانيون تبرز إعادة الاتصال بالهواجس اللبنانية المتعلقة، ليس فقط بالحروب السابقة أو ما يعيشه لبنان من مختلف أنواع الأزمات، بل تلك المتعلقة بوجدانيات الذاكرة والنسيان والكتمان والاهتراء العام الذي أصاب العالم، وتجلى أكثر ما تجلى في المنطقة العربية.

هذه المعارض إلى جانب المعارض التي قدمها فنانون سوريون وفلسطينيون وعراقيون تؤكد من جديد على أن الأزمات على اختلاف أنواعها، هي أبرز ما يشعل القريحة الفنية مثلما حدث مع السوريين والعراقيين، وتعيد إشعال الرغبة في التعبير الفني خارج الاعتياد على تلقف القهر بحكمة وصمت، كما حدث مع الفنانين اللبنانيين والفلسطينيين خلال بضع سنوات سابقة.

ندُرت المعارض التجريدية وتلك التي ترصد مشاهد طبيعية بحتة غير معنية بالحاضر، أو تلك التي تصور بورتريهات لأفراد في هدوء جلساتهم.

ومن أكثر المعارض إشارة على ذلك هو معرض الفنان حسان الصمد الذي أبدع لوحات واقعية لمشاهد طبيعية، تضج بكل الفساد والألم اللذين يعيشهما لبنان بأشخاصه وطبيعته وحتى طيوره وحيواناته.

برز من الفنانين السوريين والفلسطينيين والعراقيين واثنين من الفنانين الكويتيين ما أعلى شأن الحركة التشكيلية اللبنانية، نذكر منهم الفنان السوري مهند عرابي، والفنانة العراقية ليلى كبة كعوش والفنانين السوريين همام السيد وخالد التكريتي وسمعان خوام وباسل السعدي، والفلسطيني محمد جحا والفنانة الكويتية شروق أمين.
آل بعلبكي

شهدت بيروت مفارقة لطيفة هذه السنة، وهي معارض تشكيلية رفيعة المستوى من حيث المضمون والتقنيات الفنية المعتمدة من خمسة فنانين، هم أقارب وكل منهم له أسلوبه الخاص.

قدم أسامة بعلبكي أعمالا فنية جديدة مشغولة بمادة الأكريليك المفضلة لديه، وقد اعتمد الفنان على اللون الأزرق في معرض تحت عنوان “شبحيات الواقع”.

إضاءة شبه “فلوريسانية” بثتها أعمال أسامة، وفاضت منها كما يفيض الضوء الاصطناعي من شاشة التلفزيون.

أما الفنان أيمن بعلبكي فقدم بدوره معرضا خطيرا استطاع عبره أن يكسر جليد التعبير عن الحرب اللبنانية، كما تطرق إلى العديد من الحوادث العنفية العالمية التي أسست لمنطق معاصر في الفكر السياسي، والأهم أنه برع في إظهار لبنان كمُنطلق أساسي لفهم مسببات ونتائج شتى ضروب العنف التي تلقتها، ولا زالت تتلقاها شعوب الشرق الأوسط.

من ناحيتها، قدمت الفنانة هدى بعلبكي معرضا ارتقت من خلاله بنصها الفني إلى ما يمكن تسميته بأسلوب “ما بعد الانطباعي”، استطاعت عبره الحفاظ على واقعية المشهد المرسوم مع تحميله معاني وهواجس شخصية/ عامة، ومواقف اجتماعية وسياسية دون أن يؤدي ذلك إلى إضفاء مسحة كئيبة على اللوحات.

نذكر من أعمالها اللوحة التي رسمت فيها مخيمات السوريين الذين غادروا قسرا وقهرا بلادهم، إذ تظهر في خلفية الخيام المنصوبة مشاهد لقرى لبنانية بعيدة لا تقلّ تلوينا عن الخيام، وهي كأنها صدى بصريّ للبيوت والأشجار التي اضطر شعب شبه كامل إلى تركها وراءه.

أما بالنسبة إلى الفنان سعيد بعلبكي فيمكن القول إن مفتاحا واحدا طبع أعماله منذ سنين، ولم يتغير منذ بداية نشاطه على الساحة الفنية، وهو مُجسّد “بكوابيس الحرب اللبنانية”.

قارب الفنان في أعماله الحرب اللبنانية وكأنها وحش مُدمّى، أكثر مما هو دام، إذ لم يُقتل تماما ونسله مستمر إلى ما بعد اتفاق الطائف الشهير، وما نسله إلاّ مسوخ تمتص شيئا فشيئا رحيق بلد اسمه لبنان.
ملاحم النجاة

أمر آخر برز في المعارض التشكيلية هذه السنة، وهو حضور سرديات بصرية تتناغم مع منطق التحرر أو النجاة من ثقل الألم الذي سببته أزمات البلدان لأهلها، أمر يحاذي مبدأ قدرة الفن على مساعدة الفنان على تخطي المآسي بطريقة إبداعية.

جاءت بعض النصوص تنكأ الجراح لكي تخرج منها سمومها، ونذكر منها الأعمال الفنية التي قدمها الفنان اللبناني عبدالقادري تحت عنوان “يا بحر”.

لم يناج الفنان البحر، كما يشير العنوان، بقدر ما غمز من قناته بسوداوية ساخرة تمسّ سطحه المكدّر بأمواج غير بريئة، وكذلك عمقه الذي ابتلع الآلاف من القصص الشخصية التي تخص المهاجرين الذين عبروا ولاقوا حتفهم بين طيّاته، دون أن يلمحوا أثرا للنوارس الشاحبة، والتي شهدت بمرارة تفكك أحلامهم بالنجاة منه.
أما الفنان عمر فاخوري فقدم معرضا ضم لوحات تصور قواعد حجرية أو أسمنتية، صُنعت لكي تحمل في الساحات العامة أنصابا تذكارية “لرجالات” شاركوا في تشكيل وجه لبنان الحديث، ولكن لا يزال معظم اللبنانيين يختلفون في ما بينهم حول عظمتهم أو حول مدى تجريمهم أو احتقارهم لهم.

ليست لوحات الفنان أضرحة للذاكرة فقط، بل هي أيضا صروح للفراغ وتصوير لسلسلة من تمارين لا تنتهي، هدفت ولا تزال إلى اجتراح معنى واحد قد يتفق عليه وطن ما انفك يُدمّر ويُعيد تشييد ذاته من دون الوصول إلى قرار.إلى جانب المعارض التي نكأت الجروح لكي تنظفها من آثامها، هناك معارض فانتازية متوردة هي نصوص حميمية اعتمدت على الذكريات الحلوة قبل أن يحدث ما حدث. ونذكر من تلك المعارض، معرض الفنانة العراقية ليلى كبة كعوش “بعيدا عن الشاطئ”، وقد نظم هذا المعرض بالتزامن مع أمسية شعرية وفاء لروح الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وكادت تكون قصيدة الشاعر محمود درويش المعنونة “حنين” الوتر الرئيسي الذي عزفت عليه مقطوعاتها الفنية/ البصرية.

ليس المهم إطلاقا معرفة أي نص بنى “ذاته” على الآخر، ثمة مدّ وجزر بين الاثنين لا يتأثران بحركة قمر عادي، بل بتقلبات أقمار عدة في سماء حالة الفقد التي اختبرها الاثنان، وإن بأشكال مختلفة، حالة فقد تعاطى معها الاثنان على أنها موطن بديل ليس للأوطان فحسب، بل للمغادرات الكبرى.

نذكر أيضا في هذا السياق الفانتازي الفنان التشكيلي الفلسطيني محمد جحا الذي استطاع أن يخلق إشكالية للعلاقة بين الأرض والإنسان، وهي إشكالية لصيقة بذاكرة وحاضر الشعب الفلسطيني عبر استيلاد ولو بشكل مؤقت، وحتى إشعار آخر، عالما موازيا تتنازعه الأحلام والكوابيس، وهو في قدرية العوم الخطر والبطولي فوق عالم واقعي غارق في العتمة.

يبقى أن يلحظ المهتم بالحركة التشكيلية خلال هذه السنة أن تحت طبقات التيارات الفنية التي برزت في المعارض حراكا جنينيا لولادة جديدة، لما جرى على تسميته بالـ”هيبر رياليزم”، كيف لا والواقع بات خياليا وأكثر جنونا من أي نص فني يعتمد على الترميز أو الفانتازيا.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى