الآخر جنّة الأنا في كتاب فارس يواكيم

شوقي بزيع

لم يشأ الكاتب والمسرحي اللبناني فارس يواكيم أن يهب نفسه لنوع واحد من أنواع التعبير، بل راح منذ مطالع صباه يقسم جسمه «في جسوم كثيرة»، على حد قول عروة بن الورد، ويسلم أنامله لكل ما شغفه من فنون الكتابة وضروبها وطرائقها. قدّم في سبعينات القرن العشرين أعمالاً مسرحية رائدة، لا سيما مع حسن علاء الدين المعروف بشوشو، ومنها «آخ يا بلدنا» و «خيمة كراكوز» و «الدنيا دولاب». وكتب أعمالاً أخرى لروجيه عساف ونقولا دانيال، وكذلك مسرحية «الأسطورة» للفنانة صباح. وأعدّ يواكيم أفلاماً سينمائية وبرامج تلفزيونية، أبرزها «سهرة مع الماضي» الذي قدمته المذيعة المصرية الأبرز في تلك المرحلة ليلى رستم. وإضافة الى ترجماته الكثيرة عن الألمانية والفرنسية، أبدى يواكيم اهتماماً عالياً بالتاريخ، بخاصة في إطاره الفني والثقافي. فتعقب آثار المبدعين اللبنانيين الذين هاجروا الى مصر هرباً من البطش العثماني والتضييق السياسي والمعيشي، وخصهم بكتاب «ظلال الأرز في وادي النيل». وأعدّ كتاباً شيقاً بعنوان «حكايات الأغاني» تتبع من خلاله نصوصاً عديدة لشعراء تباينت عصورهم وأساليبهم، بدءاً من أبي فراس الحمداني ووصولاً الى أحمد شوقي ونزار قباني ومحمود درويش، وهي ترحل من بطون الكتب والدواوين باتجاه الأوتار والألحان والحناجر.
وإذا كان الافتتان بالفن والجمال هو القاسم المشترك بين سائر أعمال يواكيم، فإن هاجسه الآخر تمثل في مراعاته الحس الشعبي وإصغائه لنبض البشر في آلامهم وآمالهم وخيباتهم وتطلعاتهم المتباينة، بعيداً عن التعالي والانغلاق والنخبوية الضيقة، حتى لو أدى به ذلك الى زيادة جرعات الوضوح والتبسيط في مقاربة الموضوعات والإشكاليات التي يعالجها.

قيم انسانية
في كتابه الأخير «الإسلام في شعر المسيحيين»، يسلط فارس يواكيم الضوء على عدد غير قليل من الشعراء المشرقيين الذين لم يمنعهم انتماؤهم الديني المغاير للديانة السائدة في مجتمعاتهم من الإقرار بعظمة الإسلام وقيمه الإنسانية السمحة، بعيداً عن التعصب والانغلاق على الذات.
وهذه الالتفاتة الى الآخر المختلف بعين التكامل والتنوع في الوحدة لا تقتصر عند هؤلاء الشعراء المختارين على الجانب الديني وحده بل تهدف في عمقها الى تأكيد العروبة التنويرية التي تضم خليطاً واسعاً من الديانات والمذاهب المتباينة، وتصهرهم في بوتقة حضارية واجتماعية وإنسانية واحدة. وقد بدا ذلك جلياً في ما سمي بعصر النهضة العربية حيث لعب المثقفون والشعراء المسيحيون من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة واليازجيين والبساتنة وأمين الريحاني أكثر الأدوار ريادية في مقارعة السلطنة العثمانية، كما في بلورة المفاهيم المتصلة بالقومية العربية. وتجسد النصوص التي يتضمنها الكتاب خير تجسيد نزوع أصحابها الى إعلاء قيم الإسلام ونهجه وتعاليمه من جهة، والى تأكيد الحرص على اندماج المسيحيين في محيطهم الإسلامي والعربي من جهة أخرى. ولعلّ توقيت إصدار الكتاب لم يحدث بمحض الصدفة بل شاء مؤلفه أن يدفعه الى النشر في حقبة استعار الصراعات الدينية والمذهبية والإثنية، لا على مستوى المنطقة العربية فحسب بل على امتداد العالم بأسره.
وقد يشعر القارئ بالكثير من الدهشة إزاء ما يصيب العالم من تحولات متغايرة الدلالات، حيث تتم عولمة الأرض وتحويلها الى قرية واحدة على مستويي الاقتصاد والاتصال، فيما تنزع من الجهة المقابلة الى مزيدٍ من التشرذم والتذرر والاعتصاب العنفي. هكذا تبدو نصوص الكتاب آتية من زمن آخر لا تزال فيه أمكنة متاحة للتسامح والمرونة العقائدية وطوباوية الروح والفكر.
وعلى رغم أنّ عنوان الكتاب لا يحيل الى حقبة زمنية بعينها إلا أن فارس يواكيم جانب العودة الى العصور الإسلامية الأولى حيث انبرى العديد من الشعراء النصارى لامتداح الرسول والديانة الجديدة، مؤثراً البقاء في دائرة القرن العشرين أو قبيله بقليل.
اختار المؤلف نصوصاً ومقطوعات لثلاثين شاعراً عربياً ينتمون الى الديانة المسيحية ويشكلون حجر الرحى الإبداعي لفكر النهضة كما للروح القومية العربية. ومن بين هؤلاء خليل مطران وشبلي الشميل وحليم دموس ورياض المعلوف والشاعر القروي وزكي قنصل ووصفي قرنفلي وصلاح لبكي ومارون عبود وشبلي الملاط وسعيد عقل وبولس سلامة وكمال ناصر وغيرهم ممن يتوزعون بين بلاد الشام ووادي النيل، حيث يوجد المسيحيون العرب. إضافة الى شعراء المهجر الأميركي الجنوبي الذين حملوا شعلة الانتماء القومي من مثل رشيد سليم الخوري والياس فرحات وزكي والياس قنصل وآخرين.
وإذ يستعيد المؤلف في مقدمة كتابه قول جبران خليل جبران «أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي وأُكبر اسمه وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله»، يعرض لعشرات الملاحم والمطولات التي نظمها شعراء مسيحيون في حب الرسول الأكرم، ومن بينها قصيدة للشاعر السوري المهجري الياس قنصل يقول فيها مخاطباً الرسول «هذا كتابك يملأ الدنيا وقد/حكمتْ شرائعه لكل زمان/ الضاد من نفحاته في جنة/محروسة بالحب والرضوان/كم ردعنها من عداء ظاهر/وتحامُل يحتاط بالكتمان/هي نهضة لولا كريم وجودها/ظل الحلود يُعاب بالنقصان». أما اللبناني رياض المعلوف، وهو الركن الثالث في أسرة المعالفة التي تضم اليه كلاً من فوزي وشفيق، فيخص الرسول في ذكرى مولده بقصيدة لافتة يقول فيها «شرقنا باسمٌ بعيدك زهواً/شرقنا كلّه بعيدك عيّدْ/أينما سرتُ ركّعٌ لصلاة/ودعاءٌ، كأنما الشرق معبدْ/يا لتلك المآذن الشم تعلو/ناطحات السحاب فيها تمجَّدْ /جاوبتْها الأجراس، يا للحون/تتعالى في الأفق ثم تُردَّد/ ….».
وهذه الدعوة الى التوأمة الروحية بين الرسالتين السماويتين تتكرر أصداؤها في نصوص كثيرة مماثلة، ليس فقط في إطار البحث عن مشترك ديني وإنساني بين المجتمعات العربية بل بهدف حضّ هذه المجتمعات على نبذ التعصب والتفرقة والتشرذم، بغية توحيد الأمة على طريق الاستقلال والحرية والنهوض من عصور الانحطاط. وقد يكون رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي هو النموذج الأكثر سطوعاً للتعالي على العصبيات الدينية والعقائدية والانضواء تحت لواء العروبة التنويرية الجامعة «إني على دين العروبة واقف/قلبي على سُبحاتها ولساني/إنجيليَ الحب المقيم لأهلها/والذود عن حرُماتها فرقاني/يا مسلمون ويا نصارى دينكم/دين العروبة واحدٌ لا اثنان/بيروتكمْ كدمشقكم ودمشقكم/كرياضكم ورياضكمْ كعُمان».

حاجز الأسماء
أما مارون عبود الذي عرف بنقده اللماح ونثره الساخر أكثر مما عرف بشعره، فأطلق على ابنه البكر اسم محمد، تيمناً بالنبي العربي ورغبة في كسر حاجز الأسماء الفاصل بين الديانتين. وقد خصص صاحب «وجوه وحكايات» الكثير من قصائده للدفاع عن الإسلام وتعاليمه الداعية الى العدالة والمساواة والإخاء بين البشر، قبل أن يعلن تبرمه من واقع الأمة المزري فيخاطب الرسول بقوله «أمعلم التوحيد وحد أمةً/ قد فرقتها نعرة الأديان/ فتخالفت جُمُعاً وآحاداً وأسماء… فمارونٌ سوى مروان/ قوم تقض فراشهم آراؤهم/ ومسيحهم ورسولهم أخَوان/ يتنازعون على السماء وأرضهم/ في قبضة الرواد والحدَثان».
وبصرف النظر عن المواقف السياسية الإشكالية لسعيد عقل فإن قصيدته عن مكة المكرمة وما تمثله من أبعاد روحية ودينية فريدة قد باتت، بعدما شدت بها حنجرة فيروز، ماثلة في وجدان الملايين من متذوقي الشعر وعشاقه. إضافة الى رائعته الأخرى التي خص بها الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بمطلعها الملحمي المؤثر «كلامي على رب الكلام هوى صعبُ/ تهيبت إلا أنني السيف لم ينْبُ».
ولا ينبغي في هذا الصدد إغفال عشرات القصائد والنصوص التي كتبها شعراء وأدباء مسيحيون من أمثال بولس سلامة وجورج جرداق وإدمون رزق وخليل فرحات وجورج شكور وجوزف الهاشم حول كربلاء التي اعتبرها بعضهم نسخة إسلامية معادلة لآلام السيد المسيح. على أن التناول النقدي الموضوعي لنصوص الكتاب يستوجب الإشارة الى التفاوت الواضح في القيمة الفنية والجمالية لهذه النصوص، بل إن بعضها يبدو أقرب الى النظم الباهت والحماسة التقريرية منه الى السبر العميق لأغوار المعاني والتنقيب الشاق عما تخبئه المخيلة من رؤى الداخل وكشوفه. وربما يعود السبب في ذلك الى كون قصائد مختارة كثيرة قد كتبت في إطار المناسبات الجماهيرية التي ترى الى الشعر بمعايير خارجة عنه وتحتفي بالخطابة وإثارة المشاعر أكثر من أي شيء آخر.
لكنّ الجانب الأهم في عمل فارس يواكيم يتمثل في كشفه النقاب عن الوجوه الأكثر رحابة للعلاقة بين البشر، حيث التنوع لا يلغي الوحدة بل يمدها بأسباب الغنى والثراء المعرفي والروحي. وبعض النصوص التي بين أيدينا تحيلنا الى ذلك الزمن الوردي للاندماج الأهلي والوئام بين الأديان والمذاهب في زمن التنابذ والإلغاء المتبادل والعنف التكفيري.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى