نظرة جديدة على كلود ليلوش القديم: الحياة للحياة، والسينما للسينما ولإسرائيل

أمير العمري

احتفل مهرجان تيتانيك السينمائي الدولي مؤخرا بمرور 50 عاما على عرض فيلم “رجل وامرأة” للمخرج الفرنسي الشهير كلود ليلوش بعرض نسخة جديدة من الفيلم الذي اعتبر وقت ظهوره، عملا غير مسبوق في السينما الفرنسية، وغطى على أفلام كثيرة سبقته من إخراج مخرجي حركة الموجة الجديدة التي لم يكن ليلوش في أيّ وقت، جزءا منها، مفضلا السير وراء تطلعاته الخاصة في اللحاق بركب سينما هوليوود من خلال قصص بسيطة تتكرر حبكاتها وتتعدد، مع اللعب بالشكل السينمائي، وصولا في معظم الأحيان إلى “الفراغ”!

ذهب ليلوش إلى إسرائيل مؤخرا لعرض أحدث أفلامه “هو وهي” في مهرجان مخصص للأفلام الفرنسية أقيم في مدينة تل أبيب. وجدير بالذكر أن ليلوش يعتبر إسرائيل “وطنه الثاني” وهو ما صرح به غير مرة، وقد نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” مقتطفات ممّا قاله خلال المؤتمر الصحفي الذي أقيم بمناسبة زيارته الأخيرة إلى إسرائيل. ومن بين ما قاله “إنني سعيد بالحضور إلى تل أبيب، وسعيد للغاية بكوني في إسرائيل. إنها بعيدة عن فرنسا ولكني كنت أشعر دائما بأنني قريب من هذا البلد، وقد زرت إسرائيل 10 مرات، وعندما أكون هنا أشعر أنني في وطني. هذا بلد أحبه كثيرا، ودائما ما تعجبني فكرة أن المرء هنا يعيش مصاعب ومخاطر حيث يتصارع الماضي والمستقبل مع الحاضر… ولكن التوتر وعدم الاستقرار يجعل التواصل الإنساني أقوى”.

أما بخصوص نشأته وعلاقته باليهودية فقال ليلوش “إنني سعيد الحظ فقد كان والدي يهوديا من الجزائر، وكانت أمي مسيحية من نورماندي ولكنها اعتنقت اليهودية بسبب حبها الشديد لوالدي، وكنت في طفولتي أتردد على المعبد اليهودي والكنيسة. كانت أمي تأخذني إلى القساوسة ويأخذني أبي إلى الحاخامات. وقد نشأت ومعي هذه التناقضات ولكن أيضا التسامح”.

الحقيقة أن كلود ليلوش يهودي صهيوني مخلص تماما ليهوديته، وقد عبر عن إحساسه بصهيونيته وبانتمائه اليهودي في الكثير من أفلامه وأشهرها فيلم “والآن يا حبيبتي” (1974) الذي يعتبر نوعا من السيرة الذاتية، وفيه يعبر بشكل مباشر عن علاقته الوثيقة الروحية بإسرائيل، ويكرر الحديث عن الهولوكوست، كما لو كان يجد تبريرا لما ترتكبه إسرائيل من ممارسات عنصرية.

ولد كلود ليلوش في باريس عام 1937. وقد أخرج حتى الآن، 43 فيلما روائيا طويلا، إلى جانب 17 فيلما وثائقيا وقصيرا. كان ليلوش إذن في التاسعة والعشرين من عمره عندما أخرج “رجل وامرأة”. ولكنه ظل أسير النجاح الذي حققه هذا الفيلم، سواء في المهرجانات أو على الصعيد التجاري (اعتبر أنجح الأفلام الأجنبية في السوق الأميركية عام 1967).

في منتصف الستينات من القرن العشرين كان الجزء الشمالي من العالم يشتعل بالثورة والغضب، مع ظهور حركة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، ثم ظهور حركة العصيان المدني ضد الالتحاق بالجيش للخدمة في فيتنام وصولا إلى مناهضة حرب فيتنام وتظاهرات شباب الجامعات الشهيرة.

وفي أوروبا الغربية وبوجه خاص، فرنسا، كانت سحب الثورة العمالية-الشبابية تتجمع وتتردد أصداؤها في ألمانيا وبريطانيا، بل وتسمع أيضا في الجامعات المصرية وصولا إلى ذروتها في 1968 مع الأحداث الكبرى التي شلت فرنسا في مايو من العام نفسه، والتي جعلت رائد الموجة الجديدة الفرنسية جون لوك غودار، يتمرد ويعلن تخلّيه عن صنع أفلام “بورجوازية” ويكوّن مع المناضل الثوري جون بيير غوران وحدة لإنتاج الأفلام الوثائقية في معظمها والتي أطلقا عليها “كينو برافدا” أو “سينما الواقع”.

ولكن ليلوش كان يقف خارج هذه التجمعات، أسيرا لفيلمه الأهم والأشهر “رجل وامرأة” الذي كان قد أصبح أيضا حديث الساعة في مصر في تلك الفترة المشحونة بالغضب في أعقاب هزيمة 1967 التي عرفت خروج أول تظاهرات ضد نظام الرئيس جمال عبدالناصر من الطلاب والعمال. ولكنها كانت أيضا فترة النضج السينمائي وتفتح الوعي الثقافي في مصر على ضرورة خلق سينما جديدة أسوة بالسينمات الجديدة التي بدأت في الظهور في بلدان أوروبا الشرقية خاصة بعد ما عرف في تشيكوسلوفاكيا بـ”ربيع براغ”.
في القاهرة

في صيف 1967 السّاخن الذي عرف الهزيمة العسكرية العربية، عرض في القاهرة فيلم “رجل وامرأة” مصحوبا بدعاية كبيرة بعد فوزه بالجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي، ثم فيما بعد بجائزة الأوسكار كأحسن فيلم أجنبي. وكان من أبرز المدشنين له حماسا على مستوى الصحافة، الكاتب الصحفي والفنان التشكيلي الراحل يوسف فرنسيس.

وكان فرنسيس من المهتمين بالثقافة والسينما الفرنسيتين، وقد أقام فيما بعد للعديد من السنوات في باريس كمستشار ثقافي في السفارة المصرية هناك، كما كتب السيناريو لبعض الأفلام، أشهرها “المستحيل” الذي أخرجه حسين كمال (1964)، ثم أخرج بنفسه عددا من الأفلام، وبدا متأثرا بوضوح في فيلمه الأول “زهور برية” (1973) بأفلام كلود ليلوش تحديدا، في اهتمامه بالحدث الظاهري، واللعب بالكاميرا والشخصية دون الوصول في أيّ من تجاربه كمخرج إلى أبعد من السطح، تماما مثل ليلوش الذي أحبه وأحب فيلمه “رجل وامرأة” ثم أفلامه التالية التي دارت في نفس العالم الذي يتضمن الكثير من الادعاء، والقليل من الموهبة مثل “الحياة للحياة”، و”الحياة والحب والموت” و”المغامرة هي المغامرة” وغيرها.
سر “رجل وامرأة”

كنت شخصيا من الذين انبهروا في شبابهم بهذا الفيلم، فقد كان مختلفا عن سائر ما عرفناه من أفلام حتى ذلك الوقت. كانت تبهرنا حركة الكاميرا في دورانها حول آنوك إيميه بعينيها السوداويتين الجميلتين، وجون لوي ترنتنيان باندفاعه العاطفي، والاثنان يتعانقان بعد أن اكتشفا أن الحب يجمع بينهما، كما انبهرنا بانتقال ليلوش المستمر من الأبيض والأسود إلى الألوان، وربما كان في النصف الأول من الفيلم معنى ما لهذا الانتقال، فكانت لقطات الحاضر بالأبيض والأسود، ولقطات الماضي بالألوان، ولكنه في النصف الثاني بدأ ينتقل بين الاثنين على نحو عشوائي، وقد فجعنا فيما بعد عندما قال ليلوش إنه اضطر لاستخدام الأبيض والأسود فقط بعد أن فرغ ما كان متوفرا لديه من الفيلم الخام الملون!

كان ليلوش هو الذي صوّر الفيلم بنفسه، وعمل له المونتاج كما اشترك في كتابة السيناريو، ولذلك كان وقتها نموذجا للمخرج-المؤلف، وقد كان من عوامل الانبهار بالفيلم، الانتقال بين الماضي والحاضر، وتجسيد التناقض بين الصوت والصورة، واستخدام الحركة البطيئة، واللقطات الخارجة عن السياق (الدخيلة)، كما أثار إعجابنا كثيرا أداء آنوك إيميه وجون لوي ترنتنيان. ولكن هل كانت لدى ليلوش رؤية ما في هذا الفيلم؟
تعبير عن إحساس

لا يروي “رجل وامرأة” قصة بل يصور علاقة تربط بين شاب (جون لوي) يعمل سائقا لسيارات السباق، انتحرت زوجته قبل سنوات بتأثير صدمتها بعد تعرضه لحادث اصطدام مروع خلال السباق، وامرأة جميلة شابة (آن) تعمل مساعدة مخرج سينمائي، توفي زوجها “الدوبلير” المتخصص في أداء المشاهد الخطرة أثناء أداء مشهد خطر في أحد الأفلام.
لدى جون لوي ابن هو أنطوان، وعند آن ابنة هي فرانسواز، ويلتقي الرجل والمرأة عند ذهابهما لاصطحاب طفليهما يوم الأحد من مدرسة داخلية في دوفيل، ثم تنشأ بينهما قصة حب تشوبها ذاكرة الماضي، فالمرأة لا تستطيع بعد نسيان حياتها مع زوجها الراحل، لكن نهاية الفيلم تشير إلى أن الحب سيتغلب على المعوقات ويستمر.

إعادة مشاهدة الفيلم حديثا أثبتت لي أن ليلوش لم يكن يمتلك شيئا يعبّر عنه في هذا الفيلم، فليست هناك فلسفة أو رؤية، أو حتى نظرة ما للعالم، بعيدا عن فكرة نقل الإحساس بالحب في لحظة ما، وهي “حالة” يمكن التعبير عنها في فيلم كهذا يبدأ وينتهي دون وجود قصة، بل يمكن عرض ما يصوّره في نصف ساعة، خاصة وأن نصف مشاهد الفيلم تدور داخل سيارة، ويستغرق ليلوش زمنا طويلا في تصوير سيارات السباق والاستعدادات التي تتم قبل التسابق، والحادث الذي وقع لجون لوي، ثم نقله إلى المستشفى حيث نسمع صوت مذيع صادر من المذياع يروي لنا ويكرر نفس المعنى، وهو أن حادثة مأساوية وقعت في ردهات المستشفى بينما كان جون لوي يرقد بين الحياة والموت، فقد أسرعت زوجته الجميلة إلى الانتحار، وكنا قد رأيناها في لقطة واحدة سابقة تقول له إنها تحبه كثيرا (كما لو كان هذا مبررا كافيا لانتحارها قبل أن تتأكد من وفاته). ويفرط ليلوش كثيرا في تصوير مشاهد السباق ويكرر في الكثير من اللقطات، ثم يركز على سفر جون لوي من مونت كارلو ليلا إلى باريس بالسيارة بعد أن يتلقّى رسالة من آن تقول له فيها إنها تحبه. وقد دفع التركيز على دور سيارة “موستانج” التي تحتل مساحة بارزة من الفيلم، ناقدا أميركيا شهيرا هو روجر إيبرت، إلى وصف الفيلم بأنه يشبه إعلانا مصورا لسيارة موستانج!
رجل وامرأة وسيارة

قد رأيت في الكثير من مشاهد الفيلم، التي تتكرر فيها نغمة فرنسيس لاي الموسيقية التي أسرتنا في الماضي، عملا أقرب إلى ما يعرف الآن بـ”الفيديو كليب”، أي الأغاني المصوّرة بكاميرا الفيديو الرقمية، على خلفية الجليد والبرد والضباب وشاطئ البحر، وخاصة ذلك المشهد الطويل للكلب الذي يتقافز ويجري في سعادة بالغة بعد أن يتعانق جون مع آن في دوفيل عناقا حارا.

كانت لقطات الكلوز أب-القريبة، لوجه آنوك إينيه، ويدها حيث مازال خاتم الزواج في إصبعها، واللقطات القريبة لوجه جون لوي ترنتينان ويده تتشابك مع يدها، والزوايا الخلفية لرأسها ثم رأسه، أي تقسيم تقطيع ممارسة الحب بينهما على هذا النحو غير مألوف من قبل في السينما، وكان أمرا مثيرا للإعجاب خاصة مع خلفية فرنسيس لاي الموسيقية البديعة، غير أن المشهد لا يكتمل بعد أن تعجز آن عن الاندماج في الحب بسبب طغيان ذاكرة الماضي.

المشاهدة الحديثة للفيلم تكشف أيضا عن سذاجة واضحة في الانتقال الآلي البدائي بين الحاضر والماضي، فعندما يسألها “الرجل” عن زوجها ترتد إلى مشاهد طويلة من الماضي خلال تصوير أحد الأفلام التي تحتوي مشاهد حرائق وانفجارات وانقلاب سيارات. وعندما تسأله هي فيما بعد عن زوجته، يعود على الفور في مشاهد من نوع “فلاش باك” تصور السباق ووقوع الحادث والمستشفى وانتحار الزوجة. وتظل السيارة هي البطل الحقيقي للفيلم ولذلك فربما كان الأفضل أن يطلق ليلوش على فيلمه “رجل وامرأة وسيارة”!

خلاصة القول إن “رجل وامرأة” بمقاييس اليوم وعلى خلفية أفلام “الموجة الجديدة” التي فاقته كثيرا في طموحها، يعتبر تدريبا مدرسيا مراهقا على استخدام الكاميرا لنقل بعض الأجواء. هناك مثلا لقطة طويلة على خلفية النغمة الموسيقية الشهيرة للفيلم، من نافذة سيارة جون لوي ليلا، تعبر عن تدرجات الألوان في السماء: الحمراء والسوداء والزرقاء، مع إفراط شديد في طول اللقطة إلى أن تنتهي النغمة الموسيقية ولعل من الصدق القول إن أفلام ليلوش في معظمها، تخلو من المعنى، بل تنقل فقط مجرد إحساس، لكن المشكلة أنه لا يعرف كيف يعبر بعمق عن هذا الإحساس فيظل تعبيره سطحيا.

أخرج ليلوش عام 1986 فيلما آخر بعنوان “رجل وامرأة بعد عشرين عاما” قام ببطولته نفس الممثلين الرئيسيين، حاول فيه استكمال الحكاية واستثمار نجاحه السابق ولكن بلا جدوى، وقد ظل طيلة الخمسين عاما الماضية يسعى إلى تحقيق نجاح مشابه لما حققه “رجل وامرأة” حتى أن أحدث أفلامه وهو بعنوان مشابه: “هو وهي” ليس سوى تنويعة فاشلة أخرى على الفيلم القديم.

سيظل ليلوش، في تاريخ السينما الفرنسية، مخرجا محدود القيمة والأثر، غرامه الأول بإسرائيل جعله يتخذ دائما مواقف رجعية، وقد ابتعد عن تيار الحداثة السينمائية، مفضلا دوما البحث عن النجاح القديم الذي جاء قبل “ثورة السينما”!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى