«هاملت» إيان ماكيوان يولد مأزوماً

مودي بيطار

لم يشترك إيان ماكيوان في مشروع دار هوغارث لعصرنة أعمال وليم شكسبير في الذكرى الأربعمئة لوفاته، لكنه نقل «هاملت» إلى حاضرنا تزامناً مع المشروع. هل تقدّم «قشرة الجوز» (دار جوناثان كيب) اقتراحاً آخر للأمير الدنماركي المتردّد بعد التغيير الأساسي لوضعه؟ يعتمد الكاتب الإنكليزي منزلاً جورجياً كبيراً في لندن بدل قصر إلسينور، ويعيد هاملت الحائر إلى بطن أمه ليكون الكاتب الثاني الذي يجعل بطله جنيناً بعد كارلوس فوينتس.
تبدأ الرواية التي تبلغ نحو مئتي صفحة بعبارة: «ها أنا، مقلوباً داخل امرأة. الذراعان متصالبتان بصبر، أنتظر أنتظر وأتساءل أنا داخل من ولماذا». وتنتهي بعبارة: «الأسى أولاً ثم العدالة ثم المعنى. البقية فوضى». لا يسبق نضج الجنين الراوي عمره فحسب، بل هو مثقف كبير يستقي معرفته الواسعة من الراديو الذي تتابع والدته برامجه وإن أصابتها «يوليسيس» مثلاً التي يجدها مشوّقة بالنعاس. يعرف رولان بارت الذي قال إن الضجر ليس بعيداً من السعادة لأننا نرنو إليه من شواطئها. يسأل عن الضمير الغائب في الصين وروسيا. إذا كان الشرق الأوسط سيبقى مسعوراً يفرّغ سكانه إلى أوروبا ليغيّروها إلى الأبد؟ إذا كان التطرّف المحموم سيغطس في بركة الإصلاح الباردة؟ إذا كانت إسرائيل ستقبل بالتخلي عن إنش أو اثنين من الصحراء للذين شرّدتهم؟ وهذا السؤال يلفت الانتباه لكونه يأتي من كاتب قَبِل جائزة القدس على رغم مناشدة مثقفين وناشطين كثر في بلاده ألا يفعل.

ضجر الزوجين
ملكة شكسبير غرترود تصبح ترودي الجميلة التي تملّ زوجها وهي في الثامنة والعشرين، وتعشق شقيقه كلود الذي يعرّف اسمه «مثل كلود ديبوسي» وهو مقاول مملّ لا يؤلف الموسيقى أو يبتكر شيئاً وفق الجنين. تطلب ترودي من زوجها مغادرة البيت مدّعية أنها تحتاج إلى فسحة تعطيهما الوقت والمسافة ليجدّدا العلاقة بينهما. يصدّق بسذاجة ويتردّد عليها ليتلو قصائد غزل تثير ضجرها، ويغفل عن أنانيتها ومراوغتها وقسوتها. كان جون شاعراً فقيراً غير مقروء يكتب على الطريقة القديمة، لكنّ دار النشر الصغيرة التي مَلِكها أصدرت الأعمال الأولى لشعراء أداروا ظهورهم له بعدما نجحوا واشتهروا، وكان بينهم من حاز جائزة نوبل.
يفكر الجنين أنه محظوظ لأنه سيولد في أوروبا الغربية، لا كوريا الشمالية مثلاً، ويرث وضعاً حضارياً يشمل النظافة، العطلة، مصباح القراءة والبرتقال في الشتاء. فضّل النروج لمساعداتها الاجتماعية الكريمة، ثم إيطاليا لمطبخها الشهي وانحطاطها المغمور بالشمس ففرنسا لخمرها ولا سيما بينو نوار واعتداد أهلها بأنفسهم. يحب والديه، ويفكر بطريقة لعودة العلاقة بينهما، ويصاب بالذعر حين يسمع حديث الوسادة بين ترودي وكلود. والدته متواطئة في مؤامرة، ما يجعله متورطاً هو أيضاً إلا إذا استطاع إحباطها والانتقام للضحيّة. حين يعرف أن الخائنين يخططان لقتل والده لوراثة البيت الذي يساوي سبعة ملايين جنيه استرليني يفكر بقتل نفسه ثم يتردّد: «أخاف أن يفوتني شيء. سواء أكانت هذه رغبة صحية أو طمعاً محضاً. أريد حياتي أولاً، حقي، حصتي المتناهية الصغر من الزمن اللانهائي وفرصة الوعي المضمونة». يرغب في البقاء حيّاً حتى نهاية القرن الواحد والعشرين، والرقص بنشاط على رغم ضعفه في عقده الثامن ليلة رأس السنة 2099.
لا تهتم ترودي بالنظافة أو الترتيب، وتكدّس أكياس النفايات في الممرات فتسرح الفئران والجرذان في المنزل. تشرب خلال حملها كأسين فقط «من أجل الطفل» فيصبح الجنين ذواقة في الكحول، ويحبها على رغم معرفته بأنها تؤثر سلباً في ذكائه. قبل ولادته بأسبوعين تجلس ترودي على الشرفة المشمسة وتفرغ زجاجة كاملة في معدتها. يتعرّف الجنين في الشمس إلى اللون والشكل، ويرى يديه. ترغب ترودي بحضور كلود الولادة، بدلاً من زوجها. لكنها تنوي التخلي عنه فور قتل زوجها. في تركيز على أهمية الجنس عند المرأة، تنام ترودي مع كلود فور اتخاذ القرار بالجريمة التي يجب أن تبدو انتحاراً. يبقى الجنين يحب والدته على رغم أنها فضّلت الشرير على القديس، ولم تحب طفلها الذي سيكون مصيره إما التبني في بيت غريب- إذا نجت من العقاب- وإما السجن إن لم تفعل.
يخشى أن تتبناه امرأة بدينة يغطي الوشم جسدها، وتعرّضه لضجة التلفزيون وخطر التدخين السلبي، ويفضّل الموت بالسم كوالده. تتذكّر ترودي باكية كلب أسرتها العجوز الذي ضربته حين قفز على الطاولة فهرب ومات خارج البيت. تسترجع جون الذي بدا مثل إله إغريقي حين التقته. مارس رمي الرمح وفاز بجائزة لناديه، وضعفت ركبتاها حين شاهدت الشاب الرياضي الطويل القامة يعدو. كانت في التاسعة عشرة، وبعد أسبوع رافقته إلى دوبروفنك، كرواتيا، وتزوجا بسرعة لكنها لم تحمل إلا بعدما توقفت عن حب الرجل الذي بات سميناً وأصلع.

انتقام
جون أيضاً يسترجع الحب الميت والرحلة إلى دوبروفنك حين يأتي يوماً برفقة شاعرة جميلة تكرهها ترودي فوراً. لا يدهشه وجود شقيقه في بيته، ويتحدث بصوت ساخر، ناءٍ بدلاً من صوته الشاكي عادة. قبّلت ترودي يديه الكبيرتين أول علاقتهما، فما عاد يخجل منهما. جعلهما الحب يحبان أسرتيهما وأصدقاءهما، ووجدا فيه خيراً للعالم. يشرب جون نخب الحب القديم، ويصعق الجنين والعاشقين حين يقول إنه بات يكره ترودي كما تكرهه، وإنه فكر بخنقها مراراً. يطلب منها أن تترك البيت ليستطيع العيش مع صديقته فيه، ويوضح أنه وافق على العيش خارج المنزل ليستدرج كلود إليه ويجد عذراً كي يطرد زوجته. تقرّر ترودي قتله اليوم التالي، ويُتعب دمها الغاضب قلب الجنين. تبدأ تنظيف البيت لكي لا تنعكس قذارته سلباً على شخصيتها في نظر الشرطة، ويفكر الجنين أن والديه اللذين يحبهما ولا يطيق أحدهما الآخر يتفقان على رفضه. مع ذلك يتدخل في اللحظة الحاسمة بعد خطة القتل الخرقاء، وينجح في تحقيق العدالة وإن خرج حزيناً سلفاً إلى فوضى العالم.
بين أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر اقتبس وليم شكسبير أطول مسرحياته عن «أملث» التي دوّنها ساكسو غراماتيكوس في القرن الثالث عشر. لا تزال بين أكثر الأعمال الأدبية الإنكليزية شعبية وقابلية للاقتباس، وهي تأتي بعد «سندريلا» في الاقتباس السينمائي. رآها كُتّاب فرنسيون أضعف أعمال شكسبير لدى صدورها، وانتقد كثيرون تردّد هاملت في الانتقام من عمّه كلوديوس الذي قتل شقيقه واغتصب عرشه وتزوج أرملته. لكنّ حيرة الأمير خدمت رغبة الكاتب في تطويل مسرحيته، وطرحت قضيّة أخلاقية وفلسفية تتعلق بالقتل العمد. في مسرحية شكسبير يخالط حزن هاملت العميق على موت والده الذي يحمل اسمه استياء من زواج والدته السريع. يظهر له شبح والده ويخبره أن عمّه كلوديوس قتله بالسم، فيضطرب ويبدو تشوشه جنوناً للآخرين. يفكر بعرض مسرحي يُقتل فيه ملك بصبّ السم في أذنيه، ويذكر في مناجاة عبارته الشهيرة: «أن أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة». يطلب من والدته الامتناع عن النوم مع كلوديوس، وحين يغادر هذا إثر مشهد القتل يتأكّد من صحة اتهام الشبح. يدبّر كلوديوس نزالاً يموت فيه هاملت بالسم سواء انتصر أو هزم، فيقول قبيل رحيله: «الباقي صمت»، ويقضي معه الملك والملكة وغريمه في النزال.
يركّز ماكيوان في نسخته المعاصرة على الجنين، ويهمل التعمّق في رسم شخصيتي الأم والعم. كما في «هاملت»، يستخدم الكاتب الجنس وسيلة لإقناع المرأة، لكنّ ترودي هي التي تتخذ القرار الحاسم بتنفيذ القتل حين يدّعي زوجها كاذباً أنه بات يكرهها ويحب أخرى. تحضر العلاقة الجسدية وحدها بين ترودي وكلود، ويغيب الحب في تعبيراته وتحولاته الكبرى والصغرى. وهل هو انحصار الجنين في قشرته ما يحدّ حجم الرواية، أو أن الكاتب الإنكليزي بات أقصر نفَساً في عقده السادس؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى