في حلب المدمرة لم ينتصر القتلة بل المهزومون بمآسيهم

عبده وازن

حتى في خرابها تبدو مدينة حلب جميلة. كأن الدمار الهائل الذي غير معالمها لم يزدها إلا رهبة. حتى عندما تنعق الغربان فوق أنقاضها تظل ساحرة في ما تخفي من أسرار لم يتمكن البرابرة الجدد من القضاء عليها. أسرار تاريخ سحيق وقلعة عريقة ومساجد وكنائس… تصنع كلها شخصية هذه المدينة التي دمرها الغزاة مرات وعجزوا عن محوها عن الخريطة. ليست هذه انطباعات واهمة أو واهية سرعان ما تبددها مأساة الواقع الذي بات يفوق التصور. من يفتح كتاب المصور والصحافي السوري – الفرنسي الشهير عمار عبد ربو «حلب «ويرافقه في رحلته بالكاميرا الى المدينة المحاصرة تحت وابل القذائف وبراميل البارود والمسيجة بخطوط التماس والنيران، يدرك فعلاً كم أن هذه المدينة قادرة على الحفاظ على جمالها وعلى الصمود في وجه الخراب الذي كان بدأ يتآكل قلعتها وساحاتها وأزقتها وأبنيتها وحياة أهلها. دخل المصور المعروف حلب من بابها الضيق، باب الخطر والموت، لكنه جاب أرجاءها الواسعة ناقلاً بالكاميرا وبالعين المرهفة معالم مدينة كانت شرعت تفقد إيقاع الحياة، وراسماً ملامح وجوه وأشخاص يحيون في ما يشبه الجحيم اليومية. جال المصور المفتون بالمدينة بين الخرائب والأحياء، عاش مع الناس وعانى معهم آلام الحصار والمآسي الصغيرة والكبيرة، ناضل معهم من أجل الحصول على شظف عيش لا يشبه العيش وتنقل بجرأة بين المقاتلين والجبهات… أما حصيلة هذه الجولة أو لأقل التجربة فتمثلت في صور رهيبة، فاتنة وأليمة، ضمها كتاب صدر في باريس، مرفقاً بمقدمة كتبها المصور ونصوص أخرى دوّنها كتّاب فرنسيون وسوريون انطلاقاً من تأملهم المشاهد واللقطات التي تضج بالحياة كما بالموت، بالبشاعة كما بالجمال، باليأس والأمل أو ما تبقى منه في عيون الأطفال والفتيان وحتى العجائز. إنها حلب كما لم نرها وقبل أن تتسع جغرافيا خرابها.
أما المقدمة التي وضعها عبد ربو للكتاب (منشورات نوار بلان) الذي حمل في عنوانه ما يشبه الإهداء (حلب اليهن اليهم سلام) فشاءها مختصرة، مدركاً أن ما من كلام يمكنه أن يفوق الصور في بلاغتها المشهدية ومجازها. ومما يقول: «عن رحلاتي في قلب هذا العنف، سئلت مراراً عما شاهدت هناك. وكان من يسألني يصر على معرفة أن كان ما شاهدته «حقيقة»، وكأن صوري لا تروي ما يكفي». ثم يعترف في ما يشبه البوح بأنه شاهد في حلب الكثير من الحزن، من الغضب والكبت والفقر والموت، الموت خصوصاً. «لكنني شاهدت أيضاً الكثير من الأمل والحب والحزم والسخرية والطاقة الهائلة». ويضيف: «كل ما شاهدته سمح لي بالاعتقاد أن حلب لن «تسقط». حتى لو تمت السيطرة عسكرياً عليها فروح الحرية العاصفة فيها لن تموت». طبعاً هذا ضرب من الحماسة حيال حلب وشعبها الذي كان في تلك الأيام صامداً في وجه الصواريخ الروسية والإيرانية و «البلدية» أو الأهلية. فالمصور قام بجولته خلال العامين 1913 و1914 وحينذاك كان الكلام متاحاً عن بطولة شعب يقاوم ويصمد ويتحدى. لكن آلة التدمير ما لبثت أن استشرست وراحت تفتك فتكاً بالمدينة وأهلها، فدمرت أقصى ما أمكنها أن تدمر وقتلت بلا هوادة وأسالت الدماء وأحدثت من الخراب ما يتخطى خراب التاريخ. لكنّ المصور يحدس في مقدمته وصوره ما سوف تؤول اليه مأساة حلب، فيقول: «قيل كل شيء تقريباً عن حلب في الآونة الأخيرة… قيل إنها غروزني الجديدة، إنها غرنيكا الجديدة، وجرى الكلام عما لا يمكن قبوله عن الرعب وما لا يحتمل… لكنّ ما قيل لم يلق صدى في الفعل والأداء». ويضيف: «قرر القتلة أن يدمروا المدينة الألفية. وربما عندما تنصرفون الى قراءة هذه الأسطر، سيكون هؤلاء القتلة قد أكملوا جريمتهم… ولن يكون قد بقي من حلب سوى ذكريات وصور». ويدرك جيداً أن الكثيرين ممن يظهرون في هذه الصور سيكونون قد قتلوا أو خطفوا أو نفوا. ويضيف: «إذا ماتت حلب، فإن جزءاً منا سيموت معها. بل إن جزءاً من إنسانيتنا أيضاً سيُضحّى به الى الأبد». ويكتب عن خصائص هذه المدينة قائلاً: «هذه المدينة هي معلم أثري مفتوح على السماء. من المدينة القديمة التي تحيط بقلعتها، الى الأحياء الشعبية جداً، يمكن إدراك عظمتها في كل الأنحاء».
أما المعالم والأمكنة والأحياء التي ترصدها الكاميرا رصداً شعرياً وواقعياً مرهفاً، جاعلة من الخراب والمآسي ذريعة لصوغ جماليات المكان المدمر، فتتوزع بين قلعة حلب بأرجائها كافة والجامع الأموي الكبير بساحته ومحرابه، وشارع صلاح الدين وحيّ الشهداء وشارع جديدة وبستان القصر وعزة وفردوس ومستديرة الحوز وباب النصر وحيّ ميسر وجلوم وحيّ شيخ مقصود بقاطنيه الأكراد وسائر الأسواق التي تعج بالناس، أطفالاً ونسوة وعجائز ومنها سوق النحاسين وسوق الخضار والسوق القديم… وسائر خطوط التماس التي يربض وراء متاريسها وأكياس الرمل أو السيارات والباصات المحطمة مسلحون ومقاتلون من أعمار مختلفة، رشاشاتهم بين أيديهم أو يدخنون الأركيلة… إنها حلب قبل أن يقضي عليها الخراب الهائل الذي بلغ ذروته هذا العام، عام النكسة وعام النكبة ولكن السورية وليس الفلسطينية، فهنا ليست إسرائيل هي التي تدمر بحقدها وبغضائها، بل النظام وحلفاؤه.
كم جميل هو كتاب عمار عبد ربو وكم هو أليم وقاسٍ. هذا كتاب الصور، صور حلب قبل الانهيار الأخير. كان الناس حينذاك يملكون مقداراً من أمل ويقاومون ويحيون ما أمكنهم حياة يشوبها القليل من التفاؤل اليومي. وليس مستهجناً أن نشاهد في الصور فتياناً يركبون دراجات هوائية في لحظات الهدوء أو أطفالاً يلعبون في الحدائق الآمنة أو نسوة يتبضعن من الأسواق ما توافر لهن أو شباناً يرقصون الدبكة في الشارع… لكن مشاهد الدمار هي التي تهيمن على الصور.
من يتصفح كتاب عمار عبد ربه يسأل نفسه: كيف يمكن أن يخرج من هذا الخراب من يدعون أنهم منتصرون؟ قد يكون ممكناً تصور الروس خارجين منتصرين من أنقاض حلب وكذلك الإيرانيين و «حزب الله»، فهؤلاء جميعاً غرباء و «مرتزقة» تمت الاستعانة بهم، أما أن يعلن النظام السوري نفسه منتصراً فوق خرائب حلب، فهذا ما لا يمكن تصوره بتاتاً. لم ينتصر أحد في حلب، حتى القتلة خرجوا مهزومين. وقد يكون الشهداء والجرحى والمهجرون والنازحون هم الذين انتصروا ولكن بمأساتهم التي ستكون وصمة على جبين روسيا وإيران و «حزب الله» والنظام السوري وعلى جبين العالم الجديد، أوروبا وأميركا…
عمار عبد ربو مصور سوري فرنسي ذو شهرة عالمية، انتشرت صوره على أغلفة مجلات وصحف عالمية منها: تايم، باري ماتش، دير شبيغل، لو بوان، مجلة العالم، والمجلة الزميلة لها. أما الكتّاب الذين ساهموا في كتابة شهادات فهم: كريستوف بولتانسكي، اديت بوفييه، ماجد شريف، جان بيار فيلوي، ماري سورا صاحبة كتاب «غربان حلب»، نيكولا حنين، سلام كواكبي، كاميل دو روفراي ونورا شراباتي جنبلاط.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى