دهشة كاملة الدسم وفيلم ليس كالأفلام

آية الأتاسي

ابتعد المخرج البوسني أمير كوستوريتسا تسع سنوات عن الشاشة الفضية قبل أن يعود بفيلمه الجديد «على درب الحليب»، يأخذنا معه في رحلة إلى عالمه السينمائي الغرائبي الشبيه بالأحلام. وربما ليست مصادفة أن يبدأ الفيلم من مشهد «الحلم»، حيث تصطدم مروحية عسكرية بصقر بري فيسقط الطائر صريعاً ويصحو البطل «كوستا» مذعوراً على عالم لا يقل غرابة ووحشية عن عالم أحلامه.
عالم يعيش فيه البطل، وقد قام بالدور المخرج نفسه، على جبهة القتال في زمن الحرب الأهلية اليوغوسلافية، عابراً كل يوم برفقة حماره خطوط التماس، حاملاً الحليب إلى الجنود المرابطين هناك، ولا سلاح في يده إلا مظلة، يلاعب بها الموت، في مخاطرة لا يقوم بها إلا رجل مصاب بالجنون أو رجل اختبر الموت إلى أقصى مداه، ولم يعد يخشى شيئاً. وهذه هي حال «كوستا» الذي قُتل والده أمامه بوحشية وفُصل رأسه عن جسده، ولم يبق للولد إلا صورة فوتوغرافية لرأس مقطوع معلقة على مرآة، يراها كل صباح عندما تنتهي كوابيسه الليلية وتبدأ كوابيس الحرب اليومية.
رغم الحرب والموت المتربصين في كل مكان، تبدو الحياة في القرية البلقانية وكأنها تسير بشكل شبه طبيعي، وإن كان خارج الزمن، حيث الوقت تضبطه ساعة عجيبة تعض كل من يحاول ضبطها أو إعادتها إلى رشدها، والناس يجدون الوقت الكافي للطبخ على الجبهات ثم الشرب والرقص في الأقبية المظلمة، كما تجد الجميلة «ميلينا» وقتاً للوقوع في غرام بائع الحليب «كوستا»، الذي يبدو متردداً أو غير عابئ بالحب، كما هو غير عابئ بالموت من حوله، ولكن كل شيء ينقلب رأساً على عقب بالنسبة لهذا البطل الدونكشوتي عندما يرى «العروس» الإيطالية الجميلة، قامت بدورها الممثلة مونيكا بلوتشي، ويقع في غرامها.
المشكلة في هذا الحب أن «العروس»، التي لا اسم آخر لها طوال الفيلم، منذورة إلى شقيق «ميلينا» الضابط ذي العين الزجاجية، وهي هاربة من ملاحقة جنرال إنكليزي أغرم بها وقتل زوجته من أجلها وأودع السجن، أما ماضيها فيلفه الغموض ولا نعرف عنها سوى أنها متطوعة في ملجأ لأيتام الحرب، حيث تعمل وتشاهد بلا انقطاع الفيلم الروسي «اللقالق لا تتوقف عن الطيران»، ولا تتوقف عن البكاء، فهذا الفيلم الشهير للمخرج ميخائيل كالتوزوف هو عن معاناة الحب في زمن الحرب وأهوالها، وكأننا بها ترى قصتها التي تنتظرها في فيلم كوستوريتسا الحالي.
قصتها تلك تبدأ باختطافها من الملجأ بناءً على خطة مدروسة من «ميلينا»، من أجل عقد قرانها على شقيقها «الضابط» في اليوم نفسه الذي ستتزوج فيه «ميلينا» من «كوستا»، لكن المفاجأة تحدث حين يقع «العريس الخطأ» في حب «العروس الخطأ» من النظرة الأولى وقبل حتى أن يتعارفا، وحين يعرفها كوستا بنفسه ويسألها عن نفسها تجيبه:
«أنا المرأة التي كنتها يوماً، ولم تعد».
فيقول لها: «أنا أيضاً، لست الرجل الذي كان» وكأنهما يرميان الماضي وراءهما ويبدآن معاً من لحظة اللقاء تلك. ورغم هذا تستمر التحضيرات للزواج مثلما كان مخططا له. «كوستا» عريساً لـ»ميلينا»، و»العروس» للضابط، عرس مزدوج وعروستان تعشقان الرجل نفسه وتتشابهان حتى في الشكل الخارجي، مع فارق العمر الذي يسجل لصالح الممثلة سلوبودا ميتشالوفيش بدور «ميلينا» الأصغر سناً، دون أن تستطيع حقاً حسم اختبار الجمال أمام الممثلة الفاتنة مونيكا بلوتشي بدور «العروس»، التي تبدو وهي في عقدها الخمسين وكأنها اختمار الأنوثة أمام طيش شباب «ميلينا». هذا التشابه بين المرأتين تظهره الكاميرا سينمائياً أيضاً، كما في مشهدهما معاً في ثوب العرس الأبيض، تقفان على نافذتين متجاورتين والبطل يتأملهما في الجهة المقابلة، أو من خلال إصابتهما معاُ بعضة الساعة العجيبة، واستلقائهما في فراشين متجاورين في خيمة الإسعاف البدائية، و»كوستا» يقف بينهما ماسكاً قدرين لالتقاط قطرات الماء المتسربة من سقف الخيمة ومنعها من السقوط فوقهما، وكأنه يقف ممزقاً بين خيار العقل «ميلينا» وخيار القلب «العروس».
ويأتي القدر في النهاية ليحسم الأمر، حيث يطلق سراح الجنرال الإنكليزي من السجن، الذي يرسل كتيبة كاملة للبحث عن العروس الهاربة وإحضارها حية أو ميتة، وينتهي الأمر بمجزرة تودي بحياة جميع سكان القرية أي جميع أبطال الفيلم، ولا ينجو منها إلا «كوستا»، الذي تحميه صديقته الأفعى من الموت، و»العروس» المختبئة في قعر البئر، في إشارة إلى أن الحب ينتصر ولو جزئياُ على الحرب.
هنا يبدأ الجزء الأخير من الفيلم ومرحلة الهروب والمطاردة في عالم من المشاهد السينمائية السريالية، حيث يصطدم البطلان بكل العوائق الممكنة ويتجاوزانها بعصا كوستاريكا السينمائية السحرية، فنراهما يطيران فوق الشجرة حين تحاصرهما قوات الجنرال أسفلها، أو نراهما يغوصان تحت الماء حين تعلق «العروس» في شبكة الصياد وكأنها «عروس البحر»، ونراهما يقبلان بعضهما للمرة الأولى فتتداعى جدران الكوخ حولهما، وكأننا في عالم العجائب والأساطير، ولكن هذه المرة بنسخة مخصصة «للكبار فقط».
عن فيلمه يقول أمير كوستوريتسا أنه مستوحى من ثلاث قصص حقيقية والكثير من الخيال، وهو محق فعلاً فيما يتعلق بالخيال فهو حاضر بقوة في صور سينمائية ساحرة مع حيوانات عجيبة تلعب أدواراً رئيسية في هذا الفيلم، من الثعبان الذي يشرب الحليب ويصبح صديقاً للبطل يلتف حول جسده وقت الضيق ويحميه من المخاطر، إلى الديك الذي يقف أمام المرآة كل يوم مزهواُ بنفسه ونافشاً ريشه في الهواء، ثم الإوز الذي يسقط في «حوض حمام» مليء بدماء خنزير مذبوح للتو فيما يمكن تسميته التجسيد الحرفي لمصطلح «حمام الدم» الذي تغرق فيه فعلياً القرية البلقانية، إلى مشهد قطيع الماشية الذي يُساق بلا ذنب إلى حقل الألغام فتتناثر أشلاء خرفانه في الهواء كما الكثير من ضحايا الحروب البريئة، ثم الدب القطبي الأليف الذي يظهر في النهاية وهو يتقاسم البرتقال مع بائع الحليب، وكأن الحيوانات في زمن الحرب تبدو أكثر رحمة من البشر، الذين تحولوا إلى حيوانات مفترسة تنقض بضراوة على بعضها بعضا في حرب أهلية لا تعرف الرحمة.
وكما هو عالم الحرب مقلوب رأساً على عقب، لا يخلو الفيلم من السماء المقلوبة رأساً على عقب ولا تخلو مشاهده من الطيران في أجوائها، كتحليق فراشة الحب البيضاء فوق الحبيبين كلما التقيا، أو الدعسوقة الحمراء التي تحط على يد كوستا واعدة إياه بالحظ السعيد، أو الصقر الذي يتبع البطل وينقض على أعدائه. وما تعجز الصورة أو الكلمة عن ترجمته تنقله موسيقى «ستربور كوستوريتسا» بدقة وجمالية عاليتين، وهذه الحالة الموسيقية العالية أصبحت ماركة مسجلة لغالبية أفلام كوستوريتسا، الذي إلى جانب عمله في الإخراج يعمل عازف غيتار محترفا في فرقة موسيقية.
ويمكننا القول في النهاية إن عملا سينمائيا بهذه السوية الفنية العالية يشعرنا بأننا أمام قصيدة سينمائية خالصة لـ«فليني البلقان» كوستوريتسا، تتناغم فيها جمالية الصورة السينمائية مع عذوبة الموسيقى والأداء المميز للممثلين، في خلطة عجيبة تأخذنا جيئة وذهاباً بين الواقع والسريالية، بين الدمعة والبسمة، بين رقة الموسيقى وأصوات الانفجارات العنيفة، بين رومانسية الحب وعنف الحرب، بين مشهد عصافير الجنة الملونة وهي تحمل طرحة العروس البيضاء على شاكلة أفلام الصور المتحركة إلى مشهد حمام الدم الحقيقي بعد المجزرة وجثة الضابط المتفحمة بالكامل ماعدا عينه الزجاجية.
وتأتي ذروة الفيلم في النهاية، حين تموت «العروس» في حقل الألغام ويشعر «كوستا» ألا معنى للحياة من دونها فيحاول اللحاق بها، قبل أن توقفه جملة صغيرة لرجل مسن وتمنعه من الذهاب أبعد في حقل الألغام، حيث يقول له: «أين تريد الذهاب، ومن سيبقى ليتذكر تلك المرأة ومن سيبقى ليروي حبها؟».
ينتقل بنا الفيلم بعدها دفعة واحدة خمس عشرة سنة إلى الأمام، ونرى كيف تحول «كوستا» لكاهن أرثوذكسي، يجمع أحجار البيوت المتهدمة، وينقلها على كتفه في رحلة شاقة إلى قمة جبل شاهق، ثم يبدأ برصها حجرة قرب أخرى، وعندما ينتهي يجلس عليها وحيداً وشارداً وتلتقط الكاميرا صورة بانورامية له من الأعلى، فنراه في حقل مليء بالأحجار وفي زاوية صغيرة منه لافتة كتب عليها «حقل ألغام»…
ولنكتشف أنه صنع بحجارته التي نقلها ورصها على مدى خمس عشرة سنة، قبراً لحبيبته التي ماتت هنا، وكأنه عاش ليذكرها ويرثيها وكأنه عاش من أجلها فقط. تتركنا اللقطة البانورامية الأخيرة حائرين أمام البقعة الصغيرة الخالية من الحجارة، وكأنها ترسم قلباً رمزاً للحب الكبير في هذا الفيلم أو كأنها ترسم خريطة كوسوفو مسقط رأس كوستوريتسا، أو كأنها تترك مساحة ليستلقي الحبيب قرب حبيبته حين يأتي الأجل. وأياً كانت الإجابة، فالأكيد أن عتمة الصالة السينمائية استطاعت إخفاء دموع أغلب الحاضرين، الذين بقوا في غالبيتهم ملتصقين بمقاعدهم غير قادرين على الخروج إلى الواقع، فمن يسافر إلى عالم كوستوريتسا الساحر يحتاج وقتاً إضافياً ليعود إلى نفسه، أو لنكن أكثر دقة ليعود إلى نفسه التي تغير فيها شيء ما بعد كل هذا الكم الهائل من السحر والدهشة ومن المتعة والألم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى