أدونيس بين وقع مواقفه وإيقاعات الشعراء

*مهدي منصور
ممّا لا شك فيه أنّ لمَّ شمل عدد وازن من الشعراء المشهود لهم بالقلق أسهل من جمع الربيع كلّه في باقة واحدة. إلا أن العاصمة التي أقنعت الملاكمين الدوليين بأنّ أصابعهم صالحة للمصافحة أيضاً، والتي ما برحت تجري من تحتها الأنهار وهي تبرّد من سخونة العالم، أثبتت قدرتها على جمع الشعراء العرب المنقسمين على كل شيء تقريباً، إلا على محبة «مسقط».
أسبوعٌ في عُمان أشبه بمحاكاة أسبوع يعيشه المبدعون، على غيّهم، في الجنّة. وكما القصائد، يبدو لي أنّ السماء تقتات الزمن فتكبر عاماً بعد عام وهي تزداد علوّاً وبياضاً. فلو كان للحب أن يُقاس بجهازٍ غير القلب، لتبدّى أنه يفتح نجماً كل عشيّةٍ فوق واحةٍ في صحراء العرب، إذ لا يكفّ «مهرجان أثير للشعر العربي» وعلى مدى عامين، عن إعلاء سقف اللغة في حين يقتل الناطقون بها أنفسهم، وضم الشعراء بينما تتناحر دولهم على لا شيء. لكأن «أثير» المؤسسة الفتيّة، مشغولةٌ أبداً في أن يسلم النصّ العربي إن لم يسلم الحالُ.

افتتاح المهرجان
ضيف «مهرجان أثير» في دورته الثانية التي حملت إسم دورة «إبن دريد»، كان الشاعر والمفكر أدونيس. ربما يختصر هذا الحضور الكثير مما قد يقال في هذا المقام، إلا أن الشعراء الشباب الذين حضروا بدورهم، وهم من صفوة الأسماء العربية الجديدة، رفعوا مستوى ندوات وأمسيات مسقط إلى أقصاها. إذ يندر أن نجد عقوداً سبعةً من التجربة والتجديد تحتشد في حيّز محدود من الزمان والمكان.
في الأمسية الأولى التي كان شاعرها الأوحد أدونيس، بعد أن افتتح الأمسية رئيس تحرير صحيفة أثير الأستاذ موسى الفرعي الذي يدهشك بالخطط الثقافية التي يعدّها مع الشاعر العُماني عبدالله العريمي، وهي خطط تصلح لزيارة القمر مرتين، معبراً «إن الإيمان بالجمال أسلوب حياة، والمهرجان هو الطريقة المثلى في الدفاع عن هذه الجماليات التي يمثلها إرثنا العربي الكبير». ثم قرأ الشاعر أدونيس قصيدة «الوقت» الشهيرة له، بإلقاء أخّاذ وهو يحضن فيها سنبلة الوقت ورأسه برجُ نار.
كان مقرراً أن يشهد الافتتاح تكريماً للشعراء الفائزين بجائزة أثير للشعر العربي، إلا أن الأحوال العامة حرمت بعضهم حتى من التكريم، إذ إن الشاعر اليمني الحائز على المرتية الأولى «محمد المهدي» عن مجموعته الشعرية «شمعة في العدم»، حال دونه خمسة وثلاثون حاجزاً يجعلون الطريق إلى الجارة مسقط أصعب من الحج إلى «كومبوستيلا». وفيما حضر الشاعر المغربي محمد عُريج الحائز على المركز الثاني عن مجموعته «تركنا نوافذنا للطيور» تعذّر حضور الشاعر السوري «ياسر الأطرش» الحائز على المركز الثالث عن مجموعته «وإني قليل فكوني كثيري» بسبب تعقيدات الإقامة في تركيا.
التفعيلة تلبس أزهى ألوانها.
كان جلياً أن الشعراء، وعلى الرغم من حضور أبرز آباء قصيدة النثر، جنحوا إلى حداثة المعنى مع الحفاظ على الإيقاع، بل ذهب البعض منهم إلى تحدي جدوى الأوزان، فقد قُرئت قصائد عمودية الشكل إلا أنها مكتوبة بلغة المستقبل. احتفلت الليلة الثانية بأمسية للشعراء محمد عبدالكريم الشحي من سلطنة عُمان، وعبدالله الصيخان من السعودية، وميسون السويدان من الكويت، وجواد الحطّاب من العراق وحبيب الصايغ من الإمارات.
أما الأمسية الثالثة فاحتفت بالشعراء عمر محروس من سلطنة عُمان، ومحمد عبدالباري من السودان وهو صوت شعري يحترف الإدهاش من داخل الأوزان الخليلة، ومحمد الغزي من تونس، وشيخة المطيري، وهي من الأصوات الأنثوية المتفتحة في الإمارات والشاعرة العُمانية الشيماء العلويّة. أما الأمسية الختامية فتضمّنت قصائد للشعراء إيهاب البشبيشي من مصر ودلال البارود من الكويت، وسيدي محمد ولد بمبا من موريتانيا، وأحمد الفارسي وسعيد الصقلاوي من سلطنة عُمان.

الجلسات الصباحية
لم تكن صباحات السلطنة أقل توتراً من مساءاتها، إذ إن الندوات الصباحية لم تخلُ من طروحات جديدة وجديّة في مجالي الثقافة والنقد، منها ورقة الشاعر بلال شرارة حول (الشعر وتبادل السلطة الشعرية) طرح فيها أسئلة ملحّة في ما خص دور الشعراء الشباب في إنقاذ الراهن الثقافي، وورقة لسعدية مفرح من الكويت بعنوان (جناية التهميش على الشعرية العربية.. فهد العسكر نموذجاً) التي اعتُبرت تصريحاً عما يدور في خلد المؤسسات الثقافية الخليجيّة تحديداً إزاء حضور الشعراء غير الخليجيين في الصحف والجوائز الخليجيّة. وورقة للدكتور حسن مجّاد حول المراثي في الشعر العربي بعنوان (الإحساس بالأفول في مراثي ما بعد الكلاسيكيّة المحدثة العربيّة).
على هامش المهرجان. كان لقاء للشاعر أدونيس مع المشاركين ولم تخلُ أيّ منها من الأسئلة القلقة والإشكاليات التي يلهج بها الشاعر بكل صراحة أينما حلّ. ولمّا تعرَّض غير مرّة لنقدٍ صريح من بعض المشاركين، سواء لجهة موقفه أننا كعرب غير جاهزين بعد للديموقراطية، أو إزاء تصرحاته حول الأحداث في سوريا، أوضح موقفه من الراهن العربي وشرح مقولته أن العرب آيلون إلى الانقراض بأنه لا يعني أن العرب سينقرضون فرداً فرداً من العالم، بل إنه يتحدث عن الانقراض الحضاري.. وقال: «اليوم لو اجتمع العالم حول مائدة مستديرة لكي يدرسوا مصير البشرية أو مستقبل الإنسان وماذا يمكن أن يقدم هؤلاء المؤتمرون على هذه الطاولة المستديرة وحضر الصيني والأميركي وحضر الإسرائيلي وحضر العربي، ماذا لدينا كعرب أن نقدم على هذه الطاولة.. العالم أو الشعوب توجد بوجود قدراتها الإبداعية وبقدراتها الحضارية وليس بأشياء أخرى. العالم العربي اليوم كما تشاهدون هو في نظر العالم كله ثلاثة أشياء فقط: ثروة نفطية، وفضاء استراتيجي وبشر يمكن استخدامهم، بهذا المعنى أقول نحن ننقرض.. بهذا المعنى الإبداعي وليس بمعنى أن البشر ينقرضون واحدا واحدا وأنا أتحدى أن يقول أحدٌ لنا ماذا لدينا لنقوله للعالم اليوم. هل لنا ما يجعلنا نؤثر في مصير العالم إلا سلبياً، نحن يسرّنا للاستعمار عمله. لا تظنوا أن الغرب يحبنا بل هو يحتقرنا لأنه لا يرانا إلا مجرد أدوات، نحن يسرنا للاستعمار أن يخلق أسلوباً جديداً، إذ لم يعد المستعمر بحاجة إلى أن يرسل جيوشاً، بل صارت له جيوش وطنية داخل البلدان ذاتها وهو يرسل فقط خبراء للتدريب ويرسلهم باتفاق معنا».
وقال أدونيس كنت من البداية أعتقد أنه «في البدء كانت الكثرة وليس الواحدية، ولذلك قررت أن أخرج من هذا الإطار الوحداني المغلق». وأضاف: «كل شيء في الواحدية وظيفي: الثقافة وظيفة والإنسان نفسه وظيفة وكل يقدرّ ببعده الاستعمالي أو بعده الاستخدامي» مشيرا إلى أنه «إذا كان الإنسان وظيفة نفسه فالمجتمع يتحول إلى آلة أكثر مما يكون مجتمعا بشريا قائما على التنوع والكثرة والاختلافات التي هي أساس بناء المجتمع».
أمّا في ما خص اتهامه بالوقوف إلى جانب النظام في سوريا بينما وقف مع الثورة الإيرانيّة سابقاً، فكان واضحاً برفضه لكل ثورة تخرج من المسجد. وذكّر بمقالاته الثلاث التي كتبها إثر الثورة الإيرانية معبراً أنه في البداية لم يكن وحده مع الثورة بل أيضاً كبار الكتاب والمفكرين الغربيين وعلى رأسهم ميشيل فوكو نفسه، بوصفها حركة شعبية ومثالا فريدا للثورات في تاريخ العالم التي لم يقم بها العسكريون وحدهم ولم يقم بها الاقتصاديون وحدهم ولم يقم بها العمال وحدهم وإنما قام بها شعب بكامله في مختلف فئاته، والأكثر من ذلك لم يستخدم فيها العنف. إلا أنه رفض لاحقاً أن تقوم الثورة الإيرانية على الدين.. أو أن تقوم أي ثورة على الدين، باعتبار الدين مسألة شخصية. ثم تحدّث عن مقالته الثالثة التي حملت عنوان «الفقيه العسكري» والتي حذر فيها من ظهور شخصية اسمها الفقيه العسكري.
سمة الاتجاهات، الرحيل،
الشعراء وهم يغادرون مسقط، جهة الحنين، نائمون على أجنحة الطائرات. متعبون من الجنّة، ولعلّ الاستسلام للحلم هو الوسيلة الأسهل للبقاء في مدينة لا تمنح من يزورها فرصة للنوم بل تمارس الحب بلا توقف مع خطى العابرين على طرقاتها. إن بعض المدن أكثر دفئاً من النساء وهنّ يفتحن أشهى مروجهن تحت رؤوس الأطفال والشعراء، ولذا يظلّ الشاعر يتيماً إلى أن يسقط فيها، كتفّاحةٍ لا تعرف أن بعدها سيكون هناك مفهومٌ جديد للحب والجاذبيّة.
أصعب رحيلٍ على الإطلاق، هو ذلك الذي يأخذ شكل البقاء

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى