وجدي الكومي يعزف على «إيقاع» الأقليات

سلمان زين الدين

منذ عقدين، يواصل الروائي والقاص المصري وجدي الكومي مسيرته الكتابية التي باشرها في العام 1997، وتمخّضت عن أربع روايات ومجموعة قصصية واحدة، حتى تاريخه، أي بوتيرة عمل سردي كل أربع سنوات وإن ما نشر هذه الأعمال لا يخضع، بالضرورة، للوتيرة الزمنية نفسها، فيصدر عمله الأول بعد أحد عشر عاماً من مباشرة مسيرته، وينشر عملين اثنين في سنة واحدة.
أحدث أعمال الكومي المنشورة رواية «إيقاع» (دار الشروق)، وهي الرابعة بعد «شديد البرودة ليلاً»، و «الموت يشربها سادة»، و «خنادق العذراوات»، والمسيرة مستمرّة. وقد فازت أخيراً بجائزة مؤسسة الفكر العربي للإبداع الأدبي.
تتناول الرواية معاناة الأقباط في مصر، في لحظة تاريخية، تمتدّ من مقدّمات ثورة يناير 2011 إلى النتائج التي تمخّضت عنها، وتعود في بعض جذورها إلى القرن الثامن عشر، ومنتصف القرن العشرين. وتتمظهر هذه المعاناة في: مصادرة الأملاك باسم الإصلاح الزراعي، التضييق الديني من خلال الحدّ من الأبنية الدينية والاعتداء على المصلّين، التضييق الاجتماعي والاقتصادي، التهميش الإعلامي، الإهمال الرسمي، خطف القاصرات وإكراههن على تغيير دينهن، إغواء الزوجات ودفعهن إلى التخلي عن أزواجهن، التكفير، استبداد السلطة السياسية، وتواطؤ الإكليروس معها…
هذه التمظهرات تطفو على السطح من خلال الحكاية الرئيسة في الرواية والحكايات الفرعية، المتفرّعة منها والمرتبطة بها، فشفق ابراهيم، مهندسة معمارية جميلة، يزرع فيها جدّها، منذ الطفولة، فكرة استعادة أرض أجدادها، حتى إذا ما عثرت على حجّة قديمة تثبت ملكية الأسرة لعزبة الوقف، الواقعة في منطقة بين السرايات، تروح تحلم بإثبات صحّة الحجّة واستعادة الأملاك المصادرة، وتتوخّى في سبيل ذلك: اللجوء إلى القضاء، الاستعانة بشاندور أستاذ التاريخ الألماني، النزول عند شروط حمزة أبو النور، المحامي ورجل الدين المتشدد، المتمثّلة بتغير دينها، وترك زوجها، والزواج منه… وتدفع أثماناً غالية في تحقيق حلمها تتمثّل في تفكّك أسرتها، خسارة حريتها، الالتزام بأدبيات زواج متخلّفة، الخضوع لنزوات ورغبات زوجها الجديد. ورغم ذلك، يبوء حلمها بالفشل، فتعيد السلطة الجديدة الناس إلى البيوت التي باعوها بالترغيب والترهيب، بعد إلقاء القبض على زوجها الجديد في ملفّات عديدة، فتخسر حلمها، وتربح فقط تحرّرها من ربقة زواج باطل. على هامش هذه الحكاية، ثمة حكايات فرعية تكملها، ترويها الشخصيات الأخرى في الرواية، من منظور كلٍّ منها، تُسهم في جلاء ما لم تقله الحكاية الأصلية، وتُبرز دور كلٍّ منها في الحكاية الأم، مضيفةً إليها حكايتها الخاصّة، وهذه الشخصيات تتراوح بين الضحية والجلاد، وقد تجمع الشخصية الواحدة بين الدورين:
• أحمد خريشة مزّيكاتي شعبي ينتمي إلى المكان ويتفاعل معه، ويرفض أيّ تغير يطرأ عليه، ويتوجّس شرًّا من بيع الناس بيوتهم للغرباء.
• عزيز بطرس فيني، المهندس المدني وزوج شفق، يؤثر السلامة، ويرفض مشروع زوجته المغامر، وينغمس في أعماله، ما يؤدّي إلى اتساع الشقّة بينهما، وهو ضحية الشرائع الدينية الجامدة التي تعجز عن إعادة زوجته إليه، وترفض طلاقه لها، وتحول دون ارتباطه بأخرى، ما يؤدّي إلى ارتكابه جريمة قتل وضياع مستقبله.
• الأنبا، رجل دين، يعجز عن مساعدة أفراد الرعية، ويُضطرّ إلى مصانعة السلطة، ويتمسّك بحرفية النصوص، ويعاني من تعسّف السلطة الدينية الأعلى، ويمارس تعسّفه على الأدنى. وتنتابه كوابيس جرّاء شهادته على مجزرة طاولت بعض أتباعه، ويقضي على يد عزيز الذي انتقم منه.
• شاندور، أستاذ جامعي ألماني، يجد نفسه منخرطاً في حكاية شفق، ومهتمًّا بما أسماه «العقدة القبطية»، ويدفع الثمن من وقته، وأعصابه، وحريته.
• أيوب لويس مسيحة ضحية اسمه القبطي، في المدرسة والجيش والعمل، فيُضطرّ إلى تغييره إلى جوجو، وهو ضحية المتشدّدين الإسلاميين الذين يخطفون حبيبته دميانة، ويحتجزونها، ويدفعونها للمشاركة في الاعتصام، فتلقى حتفها.
• زهران، شاب فقير، يدفعه فقره وحاجته إلى المأوى والكسوة واللقمة إلى الارتماء في أحضان حمزة وزمرته من المتشدّدين الإسلاميين، ويتحوّل إلى أداة بأيديهم، ما يؤدي إلى الزج به في الزنزانة.
• أما حمزة أبو النور فهو ضحيّة التربية الأسرية، يمثّل رجل الدين الذي يستغلّ الدين لتحقيق مآربه، وإشباع شهواته، والوصول إلى جنّة السلطة، ولا يتورّع، في سبيل تحقيق أهدافه، عن ارتكاب شتّى الموبقات، ما يؤدّي إلى القبض عليه، والزجّ به في السجن.
في روايته، يمزج الكومي بين الخاص والعام، ويضع الوقائع الفردية في سياقها التاريخي، ويجاور بين الحاضر والماضي، ويتحرّك بين السرد والوصف والحوار، ويستخدم تقنيات روائية حديثة، فيتعدّد رواته، ويقوم كلٌّ بتركيب الجزء الخاص به في بازل الحكاية، وقد يستخدم تقنية تداخل الرواة، فيروي أحدهم عن الآخر، وتنخرط الوحدات السردية المتعاقبة في علاقة تكاملية، ويكسّر خطّية الزمان، كما يكسر نمطية السرد، ويستخدم لغة روائية تناسب الشخصيات، ويعتمد المحكية لغة للحوار، ما يعزّز واقعية الرواية، ويربط بين الوحدات – الحكايات بسلك خفي، يظهر أحياناً ليمثّل التقاطع والربط بين الوحدات المختلفة. إلى ذلك، ثمة خلل فني طفيف يتعلّق بتذكّر واقعة قبل حصولها فعليًّا، فشاندور يتذكّر واقعة استضافة مارينا عزيزاً، خلال وجود شفق عنده، وقبل رحيلها عن بيت زوجها، مع العلم أن الواقعة تحصل بعد الرحيل وليس قبله، فكيف تتذكّر الشخصية الروائية ما لم يحصل؟ وهل يكون التذكّر سابقاً للذكرى أم لاحقاً لها؟
تُعد «إيقاع» رواية مهمّة، تطرح قضيّة الأقليّات في العالم العربي، ووقوعها بين مطرقة سلطة متواطئة مع الأكثرية وسندان استبداد كهنوتي متواطئ، بدوره، مع السلطة، فتحقّق الفائدة، وتفعل ذلك بتقنيات حديثة، ولغة مناسبة، على مستويي السرد والحوار، فتحقّق المتعة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى