هل يفتتح معرضه الأخير في دمشق التطبيع الثقافي مع النظام؟… يوسف عبدلكي ينتصر للوحات العارية في زمن القتل

راشد عيسى

لم يسبق لمعرض تشكيلي سوري أن أثار جدلاً كالذي ثار حول معرض الفنان يوسف عبدلكي في دمشق أخيراً، ذلك أن المعرض وُضع في سياق سياسي محض، وهذا كان دائماً شأن التعاطي مع عبدلكي، فالفن التشكيلي في بلادنا ليس بهذه الشعبية التي تتيح جدلاً واجتماعاً كهذا حول الفنان، إنما هي تجربة النضال، السجن، المنفى، الحزب، وأخيراً الثورة.
كنت شاهداً في عام 2005 كيف أن الفنان عبدلكي أول عودته من منفى مديد إلى دمشق، كان يرفض مجرد إعطاء تصريح أو مقابلة صحافية للصحف الرسمية الحكومية السورية، وأعترف بأن ذلك بدا لنا متطرفاً بعض الشيء، حيث كان حتى بعض معارضي النظام يرون في تلك الصحف مؤسسات للدولة لا للنظام، وكانت تضم عدداً من الأسماء المستقلة لم يعرف عنها ولاء للنظام. كان الفنان يفضّل حينها الصحف اللبنانية التي كانت على الدوام متنفساً للسوريين. غير أن سنوات الثورة السورية ستكشف أن تلك الصحف باتت لسان حال ميليشيات تقاتل وتشارك في ذبح السوريين بشكل سافر، فكيف حدث أن الفنان لم يجد منذ عام 2011 أي حرج في التعاطي مع صحف الممانعة، في أشدها انحيازاً للنظام؟ كيف حدث والجريمة صارت جرائم، والضحايا صاروا بالملايين؟ نتحدث هنا عن هذه التجربة الصغيرة في تعاطي الفنان مع الصحافة كنموذج لمنطقه هو، لنرى كيف يتصرف الفنان اليوم في ضوء خط من المجابهة يسجّل له ولزملائه من المعارضين التاريخيين.
أقام عبدلكي معرضه الجديد في غاليري خاص في حي المزة الدمشقي الراقي، من دون أي رعاية رسمية، وبمصادفة مع المجزرة الرهيبة في حلب، وموجة جديدة من التهجير والانتقام والإعدامات. وهي ليست مصادفة تماماً، فالمجزرة السورية مستمرة منذ خمس سنوات، ومن المتوقع أن يرتطم المعرض بمجزرة ما. أول ما يعنيه المعرض هو هذا الخرق للمقاطعة التي فرضها المعارضون للفعاليات الثقافية والفنية في ظل النظام، ذلك الأمر (المقاطعة) كان أول خيار ممكن للفنانين والمثقفين بموازاة التظاهرات الشعبية في الميادين والشوارع. كانت مؤسسات النظام تجهد حينها لابتكار فعاليات وأعراس لتجسد المقولة الأمنية «الأزمة خلصت، وسوريا بخير». وإذا أردنا أن نتعرّف أي معنى لذلك عند النظام لنتخيل أن جزءاً من موازنة «وزارة المصالحة الوطنية» راح للفعاليات الثقافية (مشروع «ومضة» مثلاً). هكذا انتعشت أعمال فنية مصورة في الشارع، في بلد يعرف المشتغلون في الشأن الثقافي أنها كانت سابقاً ضرباً من المستحيل، في بلد لم يكن مسموحاً فيه الاجتماع في الشارع لأكثر من شخص واحد. أراد النظام أن يثبت بأي ثمن أن الأمور على ما يرام. لقد أعطى عبدلكي الآن، باعتباره اسماً معارضاً كبيراً، ومعتقلاً لا يستطيع أحد المزاودة عليه، الشرعية للمتردّدين في اقتحام ميدان الفعاليات الثقافية. يقول البعض إن الحياة يجب أن تستمر، والناس يجب أن تتابع حياتها، هذا صحيح طبعاً، ولكن الفارق كبير بين ضرورات الاستمرار والدخول في تطبيع العلاقات الثقافية مع مؤسسات النظام. لا شك أن على الطالب أن يذهب إلى مدرسته، وعامل المخبز إلى عمله، والمزارع وبائع الخضار والطبيب، وحتى طالب الموسيقى الذي قد يواجَه بأن جزءاً من تدريبه أن يقدم حفلاً موسيقياً أمام الناس. إذن ما الفارق، وما المعيار في «ارتكاب» هذه الفعالية أو تلك؟ إنها النظرة إلى النظام ومؤسساته، هل يرى الناس أنها مؤسسات للدولة أم نظام احتلال. لو أجريتْ اليوم مراجعة وطنية لتاريخ سوريا المعاصر لوجب أولاً تقدير مرارة المعارضين التقليديين ما قبل الثورة، كيف تحمّل هؤلاء، وبأي عين كانوا يرمقون اندماج السوريين في مؤسسات النظام بعد أعوام الثمانينيات، دون الالتفات للمجزرة الرهيبة التي ارتكبت وسط البلاد في مدينة حماه الذبيحة، كيف حدث أن نسي السوريون ودفعتهم «ضرورات استمرار الحياة» إلى نسيان المذبحة، إلى أن تحوّل الشعب كله طلائع وشبيبة عمالاً وفلاحين وصحافيين في مزرعة البعث والمخابرات و»سوريا الأسد». هنا بالضبط يكمن الخطر، في أن يفتح هذا «التطبيع» الطريق نحو أربعين عاماً أخرى من حكم الأسد. سيبدأ الناس من ضرورات العيش ليجدوا أولادهم يهتفون في المدارس ضد المؤامرة الكونية وعصابات درعا وحمص ودوما وحلب الإرهابية.
جواب الفنان عبدلكي على المعترضين على معرضه الدمشقي جاء متعالياً بعض الشيء، فبعد أن اعتبرهم مجرد «مهتمّين بالسياسة في الخارج»، الذين «أضاعت الغربة بوصلتهم»، فسّر بالقول إنها «مبادرة مستقلة تثبت أن بلادنا وشعبنا قادران على الحياة، رغم القتل والدمار والموت المحيق بنا جميعاً». بالله عليكم دلّونا أولاً على شعب في العالم أثبتت الأيام أنه غير قادر على الحياة. أما الحديث عن مبادرات ثقافية مستقلة، فربما يجد عبدلكي الجواب في تجربة أربعين عاماً مضت، وفيما إن كان ممكناً الحديث عن ثقافة مستقلة حقيقية في ظل نظام لم يقصر أوقات السلم في اقتياد روّاد صالون أدبي في بلدة جرمانا إلى فروع الأمن لمجرد قراءات أدبية تعقد في البيوت، وفي الحرب دمر نصف البلد وهو مستمر للإجهاز على الباقي لو تطلّب الأمر.
هذا يدفعنا للنظر في فحوى المعرض والرسائل التي أرادها عبدلكي من وراء «المبادرة»، هو المعرض الذي غلبت عليه لوحات عارية، وفي الوقت الذي حاول المتحزّبون للفنان اختراع أبعاد سياسية للعري، قال الفنان ببساطة إن «الجسد العاري سوية رفيعة من سويات الجمال في الحياة. لا يوجد أي شيء أرفع جمالاً منه، لذا وجدتني أنخرط في العمل عليه وكأني أُبعد نفسي عن بشاعة الحرب وبشاعة القتل وبشاعة التدمير». فأي ترف ثقافي حين يعلن المثقفون الحرب على «جدار المحرم والممنوع» في زمن القتل التهجير والتجويع والذبح والاعتقال الوحشي، في وقت سنرى حول العالم مبدعون أجانب استهلموا المأساة السورية في غرافيتي وأعمال تركيبية وصولاً حتى إلى عروض أزياء تستلهم المأساة.
لا شك أن من حق الفنان أن يرسم ما يشاء، ولكن الفنان عموماً (فما بالك عبدلكي) ليس نجار موبيليا. يصعب أن يقبل المرء من عبدلكي معرضاً دون مغزى يتعلق بالراهن، فأي رسالة لأعماله الفنية العارية في خضم المجزرة السورية، أي معنى للوحاته «الآن وهنا»؟ ولا يخلو من معنى أن يقارن سوريون كثر عري لوحات عبدلكي بالعري الوحشي الرهيب في الصور التي سرّبت لمن قضوا تحت التعذيب في سجون النظام. لا داعي للقول إن للفنان أن يرسم ما يريد، ولكن لكل فعالية في العالم معنى وتوقيتا وسياقا هو ما يعطي إمكانية القراءة. فوق ذلك، هل استطاع الفنان أن يحوّل المناسبة أو يستثمرها للمطالبة بإطلاق زميله المعتقل في سجون النظام عبدالعزيز الخيّر؟ إن صحّ قول عبدلكي بخصوص من ضيّع البوصلة فلعله يصحّ على المعارضين الذين يقفون جذرياً ضد «هيئة التنسيق»، التي ينتمي إليها الفنان عبدلكي وحزبه، لكنهم دافعوا بإصرار في الوقت ذاته عن مبادرته تلك. ولا كأن تلك «المبادرة الثقافية» تتناغم مع توجهات الـ»هيئة»، هي التي وجدت لتمييع خطاب الثورة السورية، ومصادرة جزء من تمثيلها، حتى أنها احتكرت صفة «معارضة الداخل».
أما يوسف عبدلكي فبوصلته واضحة تماماً ما دام جزءاً من «هيئة التنسيق»، لنرَ كيف ستُسقط الـ«هيئة» نظاماً، أثبتـــــت السنوات الخمس الفائتة توحشاً فاق كل خيالات السوريين، ما دامت الساحة قد خلت الآن من ثورة موصومة بالعنف والطائفية والارتهان وسواها من اتهامات.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى