ما بعد الاستقلال وخطاب الدم: منهجيات المستعمِر وتطبيقها على المستعمَر

رامي أبو شهاب

ما يشهده العالم العربي من فائض الدم والدمار وتعطل التنمية، فضلاً عن تدمير مظاهر الحضارة بإنسانها وفنونها وآدابها لهو أسوأ سيناريو يشهده عالمنا العربي منذ أن رحل الاستعمار، بالتجاور مع نكسة حزيران، إذ لا شيء تحقق، لا القيمة المنوطة بكرامة الإنسان، ولا حتى العيش بالقدر الأقل من الحياة الطبيعية.
في كتاب «معذبو الأرض» لفرانز فانون ثمة مقدمة كتبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر تنطوي على ملخص أو توصيف عميق لواقعنا المعاصر، أو بوصفنا من الدول المستقلة، أو نتاج المرحلة الاستعمارية حيث يقول: «منذ زمن غير بعيد جدا كان عدد سكان الأرض مليارين، منهم خمسمئة مليون من البشر، ومليار وخمسمئة من السكان الأصليين. فالأولون يملكون الكلمة، والآخرون يستعيرونها، وبين هؤلاء وأولئك يقوم بدور الوسطاء حكام صغار مشترون وإقطاعيون، وبرجوازية زائفة ملفقة تفليقاً».
تكمن إشكالية الفئة الثالثة لكونها قد تجاوزت مفهوم التابع، غير أنها لم تصل إلى طور السيد، ولهذا أضحت النموذج الأكثر كآبة، علاوة على كونها العامل الأشد ضرراً على الإنسانية المعذبة التي ما أن تخلصت من الاستعمار حتى أعيد استعمارها، ولكن بضراوة من قبل فئات خرجت من ظلال المستعمِر.
ولعل هذا النهج هو المسؤول عن عبودية العقل العربي، وذاته المشوهة في جزء منها، أي الذات التي انشقت كبرعم صغير ليتحول إلى ورم. وعلى الرغم من أن الذات المستعمّرة قد تحررت من المستعمِر، بيد أنها ما زالت تعاني على مستوى الذات، فهذه الذات ما فتئت تدمر ذاتها، تحاصرها، وتقتلها، سواء أكانت الذات العربية، أو الإسلامية وحتى الذات القطرية على مستوى المفهوم السياسي الحديث. فالعقلية العربية مسكونة بهواجس الذات الصغرى، أو الأنا الضيقة الحدود التي لم تدرك بعد أبسط مفاهيم التحضر والتمدن القائمة على تقبل الآخر في سياقات متعددة كالدولة، وحتى في العمل، والمؤسسة، ودور العبادة، فلا جرم أن نشهد هذا الاقتتال الداخلي المستمر، وعدم الاستقرار منذ أن رحل الاستعمار، وكأن الاستعمار قد خلف جرثومة أو وباء حال دون تحقق اندماج الذوات مع بعضها بعضا.
هذا القدر الكئيب يحملني إلى إعادة قراءة المفكر والمناضل المارتينيكي فرانز فانون في محاولته لتوصيف مسلك المستعمر حول فهمه لذاته، ومع أن فانون يشير في كتابه «معذبو الأرض» إلى بعض الملحوظات المتبصرة عن تشكيل عقل المستعمَر بعيد رحيل الاستعمار، من خلال تطبيق عدد من الاستراتيجيات القرائية لكتابه الذائع الصيت «معذبو الأرض»، الذي تتحدد قيمته من خلال البحث في تكوين الخطاب الاستعماري المضاد، فهل هو موجه للدول المستعمِرة أم للدول المستعمَرة؟ هذا الطرح ينطلق من نقد الذات التي سعت إلى البحث عن حريتها، وكيانها بعد سلسلة من الانتهاكات التي تعرضت لها قبيل وبعيد الاستعمار.
إن ما يحصل الآن يدفعنا إلى الاستنتاج بأن التكوينات الاستعمارية وفلسفتها ما زالت حاضرة، بل ما زالت تمارس تأثيراً في المستعمرات السابقة، وخطابها، فهذه المستعمرات التي لم تصل بعد إلى النضج كي تتمكن من بناء الدولة، التي ما زالت في طور المخاض باحثة عن صيغة قابلة للحياة. وكما يقول فرانز فانون: محو الاستعمار وإزالته يعني نجاحاً، ولكن الدليل على النجاح الحقيقي إنما يكون في تبديل صورة المجتمع تبديلاً كلياً، ومن هنا، فإن المستعمرات السابقة، وكما نلاحظ من خلال المسار التاريخي، فإن مجتمعات ما بعد الاستعمار لم تتبدل، فهي ما زالت في أطوار من الاقتتال، وعدم التمدن، فالصيغة لم تكتمل، والمعادلة ناقصة، فهذه الدول ما زالت تنهج النهج عينه، من حيث تقدير المنظور الطبقي، والمجتمعات الصغرى، وتقديم الذوات على مفهوم الأمة، أو الدولة، ولعل ديمومة هذا النهج ربما يقود إلى مستقبل مروع على حد تعبير فانون.
إن عملية محو الاستعمار تعني أن تدخل الدول التي نالت استقلالها في مرحلة جديدة في التاريخ، أي أن يتحول المستعمَر إلى إنسان، ولكن هل هذا ما تحقق فعلاً؟ هل هذا ما يمكن أن نلتمسه عبر سلسلة من الإقصاء والقمع، والحروب الأهلية التي اجتاحت الدول المستقلة، فلا تكاد تسلم دولة واحدة من هذا المصير؟ وهل ذلك يعني أننا لم نصل بعد إلى مستوى الرشد السياسي؟
لعل محو الاستعمار كما يحلل فانون يتحدد بذلك الصراع بين المستعِمر والمستعمَر على موقع الواجهة، أو الصف الأول، وهذا استجلب إبان المرحلة الاستعمارية العنف، ولكن ما أن رحل الاستعمار وبدأ الصف الأول بالتكون، وأصبح بعض المستعمَر سيداً، إلا أنه سرعان ما استمر في امتطاء صهوة العنف كي يبقي على تمركزه في الصف الأول، أي في الواجهة، وهذا ما يمكن أن نستنتجه من إعادة تصميم العالم ما بعد الاستعماري، حيث يقول فانون: «إن دراستنا للعالم الاستعماري وتنظيمه وترتيبه الجغرافي، ستتيح لنا أن نعيق التداخل الذي ستبدأ به إعادة تنظيم المجتمع الذي تخلص من الاستعمار». فمجتمعات ما بعد الاستعمار لم تتعلم من المستعمِر سوى درس واحد… تقدير العنف بوصفه قيمة قادرة على إحداث التحول والمحافظة على المكتسبات من المرحلة الاستعمارية. ولعل التفسير المتبصر والعميق للتعامل مع السلطة إبان المرحلة الاستعمارية، التي تميزت بأجواء الخضوع والامتنان لحكم السلطة، وربما التقدير نتيجة التعقل الذي يبديه المواطن الأصلي، ولكن هذا تحول إلى نمط آخر بعد رحيل الاستعمار، فحين يتحول الحكم ليكون بأيدي السلطة الجديدة، أو سلطة الاستقلال فهي تسارع إلى أدوات كان يستعملها الشرطي الأبيض، ومنها العصا، وهكذا تستمر المستعمرات السابقة بالتعاطي مع جرثومة العنف، أو ذلك العنف الذي استعمله المستعمِر لدفع المستعمَر للتعقل والاتزان، غير أنه هذه العصا تتحول إلى أداة للعقاب الدائم والمستمر، وهكذا تحمل هذه القوة إلى بيوت المستعمَر وأدمغته لتتحول مع الزمن إلى نسق ثقافي، ربما لن يتوقف يوماً عن النمو.
إن إشكالية الاستعمار كما يحلل فانون تتمثل في نظرة الحسد التي تتملك المستعمَرين تجاه المستعمِرين، حتى في الطابع الجغرافي المتعين بمقولة مدينتهم، ومدينتنا، ولكن هذا النسق لم يتلاشَ مع رحيل الاستعمار، فالمدن في المستعمرات السابقة سعت إلى إقامة قطاعين جغرافيين: مدينة السلطة التي تتسم بالترتيب والهدوء والتنظيم والموائد العامرة، في حين هنالك مدينة المهمشين الذي يتوقون إلى التمتع بما يتمتع به الآخرون من ملاك السلطة، فالفروق الاقتصادية، وطراز المعيشة تبعاً لتقدير فانون لا تستطيع أبدا أن تحجب الوقائع الإنسانية. ولننظر في ملامح المدن العربية، أو الدول التي شكلت جغرافيات الهامش، أو الأطراف مراكز التذمر والثورة، فثمة في المدينة العربية تباين كبير لا يمكن أن نعثر عليه في أي دولة غربية مهما كانت، فهي تحرص كل الحرص على توفير الحد الإنساني لمواطنيها بغض النظر عن تموضعهم، في حين أن المدينة العربية تنطوي على تصنيف طبقي جغرافي، فثمة غرب يحظى برعاية ورفاه متقدم، في حين أن الجزء الشرقي بائس، معدم، وربما يكون الأمر متعلقاً بالشمال أو الجنوب، هذا النسق عينه الذي أوجده الاستعمار في مستوطناته في كل من أفريقيا، وآسيا، وكما تمارسه إسرائيل في فلسطين، غير أن الإحساس بالقهر يتضاعف حين تتحول الذات المستعمرة إلى مكونين متناقضين، عالمين يفصل بينهما قدر كبير من الاختلاف، ومن هنا نشأت العلل والأورام في المدن العربية التي سرعان ما انهارت، وبات الدم حواراً لا ينتهي. إن تحقيق التنمية، لا يمكن أن يتحقق دون أن يشمل ذلك الذات التي تعني كلا، لا جزءاً، وهنا تكمن المشكلة حين تتحول الأغلبية إلى وقود للأقلية التي تمارس دور السيد (المستعمِر السابق)، فماهية العبد غير ماهية الفارس، كما يقول فانون، وعلى الرغم من أن المستعمِر كان أجنبياً، غير أن النخب الحاكمة هي من الذات، فمشكلتها لا تكمن فقط بما تمتلكه من أرصدة وقوة، إنما لكونها تشبه السكان الأصليين، أي إلى الذات، وبعبارة أخرى هم الآخرون، وهذا ما يفاقم من حدة العنف.
إن التحطيم الذي تشهده المدن العربية ما هو إلا تحطيم العالم الاستعماري، فالذات تريد أن تقتل ذاتها، كما نشاهد في عديد المدن العربية، فالإشكالية ليس عرقية، أو طائفية، بمقدار ما تتحدد بالاختلاف في المظهر، في النهج، وطرق الحياة، كما القيم الاقتصادية، نماذج الحياة اليومية، ذاك القلق الذي ينتاب الذات في البحث عن أفقها المستقبلي المرتهن للآخر، أو للذات المختلفة الممثلة بالسلطة، ولعل هدم العالم الاستعماري لا يسعى فقط إلا إلى إيجاد طرق أو ممرات بين المنطقتين، إذ لا يمكن لذلك أن يصدق، فمن منظور فانون فإن الهدف أثناء المرحلة الاستعمارية كان يتحدد بالقضاء على الجزء الآخر، أو إزالة إحدى المنطقتين، وطردها من البلاد، أو حتى دفنها في الأرض، ولكن هذا يأخذ مظهراً آخر حين يتحول إلى الذات المنقسمة إلى جزأين بعد الاستقلال، فهذا يصبح أشد عنفاً ودموية، فالذي نشهده الآن من تدمير المدن العربية، يعني أن ثمة رغبة لكلا الطرفين بدفن الآخر في أعماق الأرض، والتخلص منه، لقد انتقلت القيمة الكامنة للعنف لتتحول إلى بنية عميقة، وما السنوات التي شهدتها بعض الدول بوصفها سنوات استقرار لم تكون سوى استعداد لهذا الانفجار تبعاً لكونها قد نهضت على أسس سلطوية وغير عادلة.
ختاماً، نستنتج بأن مبررات القضاء على جزء الذات يقوم على نفي القيم عن هذا الجزء، وهذا يتم بطريقة تبادلية، أي بين الطرفين، فعندما يسارع إلى تمثيل الطرف الآخر بنفي امتلاكه للقيم، فذلك يعني أن القضاء عليه لا يشكل أدنى ضرر إنساني، وهكذا تتحول القيم إلى نموذج لغوي استعاري يوظف بهدف الولوغ في دم الآخر، كون الآخر- الأنا تعني الشر المطلق حتى تجرد إنسانيته بالكلية ما يجعل من فائض الدم أمراً مشروعاً.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى