‘حار جاف صيفا’ .. دهشة سينمائية تتجاوز الحكاية

حميد عقبي
المخرج شريف بندارى لم يسرف بسرد تفاصيل هامشية لا معنى لها، كل مشهد تم بناؤه بشكل فني ولغة سينمائية معبرة وتختلف عما نشاهده في الأفلام المصرية السبكية التي لا تنقل معنى ولا صورة.

تدور أحداث الفيلم حول حالة عم شوقي ورجل عجوز مصاب بالسرطان يؤدي الدور الفنان محمد فريد، لكن أحدا لا يهتم به، فولده الوحيد ينشغل عنه وليس لديه وقت لوالده وتبدأ الأحداث مع الأب ينشر ملابسه في البلكونه ويقع منه سروال داخلي، يتأهب الرجل في هذا اليوم المهم للذهاب إلى دكتور أجنبي متخصص ورغم أهمية الموعد وقسوة الطقس الحار والجاف إلا أنه سيذهب وحده رغم مرضه وضعفه.

يكتفي الابن بتذكير والده ببعض الأشياء المتعلقة بهذه الزيارة المهمة وتبريد قنينة ماء لمقاومة فظاعة حر وجفاف هذا اليوم وتوصية سائق تاكسي لنقل والده إلى المستشفى. ينطلق العجوز ويركب التاكسي الذي يتوقف بالصدفة ليأخذ فتاة تستعد لليلة زفافها وتكون برفقة صديقتها ويحدث المنعطف الدرامي بعد نزول الفتاتين وأخذ الكيس البلاستيكي الأصفر الذي توجد فيه صور التحليلات الطبية والأشعة وهكذا يحسُّ الرجل بما حدث وتبدأ رحلة مليئة بالأحداث البسيطة ولكنها مفعمة بالمعاني.

المخرج شريف بندارى لم يسرد لنا مجرد حكاية عادية ولسنا مع فيلم يمتلك نجوما فنية ولا يناقش أفكارا وأحداثا معقدة، الفتاة العروسة (ناهد السباعى)، في هذا اليوم المهم جدا في حياتها تجد نفسها وحيدة لتذهب إلى الكوافير والخياطة ثم المصور كون الزوج ذهب ليحضر أهله.

يجمع القدر في هذا اليوم وهذا الطقس الجهنمي بين هذا الرجل العجوز والمريض والمحبط الذي نُحسه يودع أيامه الأخيرة وبين هذه الفتاة الشابة والمقبلة على حياة جديدة وزواج وهي تحب عريسها ولا تعرف الكثير من التفاصيل حول مستقبلها حيث ستنتقل مع زوجها إلى مدينة ثانية وكل ما تملكة الثقة في زوجها وكذلك الحب، ربما هي أيضا أي الفتاة كانت بحاجة إلى هذه الصدفة وأن تُحسّ بوجود أب حنون بجانبها ويرافقها إلى المصور لتحقيق حلمها وأخذ صور مع زوجها بفستان الفرح.

هذا الحلم الطفولي والبسيط يتحقق بوجود العجوز والذي هو الآخر يُحسُّ بسعادة وهو ينفذ مطالب الفتاة رغم ضيق الوقت وقسوة الطقس وزحمة الطرق، يحقق العجوز أمنية الفتاة ويذهب إلى موعده.

لم يتأخر المخرج بالحدث المهم وهو أخذ الكيس الأصفر بالغلط وهنا الضربة الذكية والتي عليها ستتحرك الأحداث وهنا يضع أمام المتفرج خيارات وظنون متعددة وهنا سيذهب البعض ليتصور أنها بداية رحلة متاعب لعم شوقي المريض، وفي وسط البلد يتحرك الرجل المتعب ليبحث عن كيسه المفقود، لم يسرف المخرج بسرد تفاصيل هامشية لا معنى لها، كل مشهد تم بناؤه بشكل فني ولغة سينمائية معبرة وتختلف عما نشاهده في الأفلام المصرية السبكية التي لا تنقل معنى ولا صورة.

ينطلق بنا الفيلم في وسط البلد بالقاهرة حيث الضجيج والناس والحر والزحمة وبعد رحلة تعب وبحث مرهق وهنا يكون اللقاء والتعارف الحقيقي لعم شوقي بالفتاة التي تشعر بالوحدة وأن حلمها البسيط قد لا يتحقق أي أخذ صور بفستان الفرح، يكون هذا الرجل بوابة أملها ومنقذها الوحيد حيث تطلب منه مرافقتها إلى المصور والتكلم مع عريسها الذي لا يأبه لهذا الحلم.

تتحول العلاقة وتأخذ منحى إنسانيا ويشعر العجوز أنه من الممكن أن يسهم في سعادة الفتاة التي تمنحه أهمية وكما تشعر الفتاة كأنها مع والدها الذي فقدته بسبب مرض السرطان.

في المشهد الأخير من الفيلم تستعرض الكاميرا سريعا لنرى صورة الفتاة بفستان الفرح ونلمس حياة تلك الشابة البسيطة والتي كانت تجهل مستقبل حياتها الزوجية لكنها أصبحت زوجة سعيدة وأم ونستمع إليها تحكي لصديقتها في التليفون عن بعض علاقتها الحميمة مع زوجها، العالم الآخر ذلك المريض عم شوقي ولكنه يبدو بصحة أفضل ومبتسم نراه يجلس على الشرفة يستمع إلى أغنية ثم نرى صورة عم شوقي والفتاة بفستان الفرح.

فاز فيلم “حار جاف صيفًا” بعدة جوائز في عدة مهرجانات سينمائية عربية وهو يستحق هذه الجوائز وهو يعيد ثقتنا بمدى فهم السينما كفن تعبيري ساحر وأنه يمكننا أن نتعمق في واقعنا العربي المعاش لنكتشف الكثير من الحكايات المدهشة.

وهنا الدهشة لا تعتمد فقط على الحكاية ولكن أساليب العرض وتطعيمها بمجموعة من الاستعارات ذات المعاني غير المحدودة، فمثلا السروال الداخلي لعم شوقي الذي يقع عليه ثم يلتقطه ويضعه في الكيس وثم يقع منه في العيادة خلال الفحص وينشغل بأخذه بينما الطبيب يستعرض الفحوصات والأشعة، كذلك الجلاكسي وقنينة الماء المثلج وتلك الأماكن الحريمية التي يضطر عم شوقي لدخولها، وحتى التاكسي فهذا المكان الضيق والمحدود فيه ولدت الإبتسامة والفرح وكان المكان الرحب لترعرع السعادة بعد أن كان هذا المكان ساحة لعرض القلق والخوف، توجد تحولات ذكية في الفيلم تتلاعب وتكسر توقع المتفرج وتتجاوز الحكاية لتقدم معاني وأحلام صغيرة لكنها إنسانية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى