يوميات هوليوودية وصدقات فيسبوكيّة: هل انتهى زمن السلفيّة الجديدة؟

محمد تركي الربيعو

في سياق قراءته لتجربة فشل الإسلام السياسي مع بداية التسعينيات، تنبأ الأنثروبولوجي الفرنسي أوليفيه روا، بأن الزمن المقبل هو زمن السلفية الجديدة بامتياز، وأن ما يميّز أبناء هذه السلفية هو أن مدونتهم المعرفية هي مدونة مبعثرة ومستعارة من مصادر مختلفة (غربية، دينية، كتب مدرسية) ولا يمكن بلوغها إلا بالتبسيط والتجزئة.
كما أن علاقتهم بالمعرفة هي علاقة عصامية. فالمعرفة تكتسب في أشكال جزئية وعبر وسائل الإعلام الجديدة كالإذاعة والتلفزيون والأشرطة المسجلة. ولذلك تزول في عملية المعرفة هذه، طقوس نقل المعرفة التي تحظى بأهمية بالغة داخل المؤسسات الدينية التقليدية. وبعد سنوات من هذا الوصف، أكّد روا على رؤيته هذه بشكل تفصيلي أكثر، وهو ما بدا في كتابه «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة». إذ رصد فيه حالة السلفية أو الأصولية الجديدة التي تشهدها كافة الأديان، والتي تتفاعل مع آليات العولمة الجديدة. ما ساهم برأي روا في صياغة سوق دينية جديدة تتميز بثلاث سمات أساسية: الأولى: قيامها على انتقال وتبادل الأفكار الدينية والمواد الثقافية بطريقة مشابهة لانتقال السلع والأشخاص. ثانيا: الأفكار الدينية المنتشرة في هذه السوق تتميز بكونها منقطعة عن تربتها الثقافية والروحية التي نشأت فيها. الثالثة: الأفراد الدينيون في هذه السوق يتميزون بحالة من الفردانية على مستوى اختيار الرموز الدينية، وينشأون خارج حلقات التعليم الديني التقليدية.
شكلت رؤية روا السابقة مدخلا مهما لقراءة التحولات التي شهدتها الأوساط الإسلامية التقليدية (الإخوان المسلمون) التي شهدت أوساطها حالة من التآكل لصالح السلفية، كما رأى المرحوم حسام تمام في أطروحته «تسلّف الإخوان: تآكل الأطروحة الإخوانية وصعود السلفية في جماعة الإخوان المسلمين»، كما استطاعت رؤية روا تفسير ظاهرة الجيل الجديد من الجهاديين والعمليات الانتحارية في أوروبا، وكيفية تكوّن خلفيتهم الدينية في ظل السوق الدينية الجديدة (الإنترنت، والتعلم الذاتي). بيد أن السنوات الأخيرة في المنطقة وتوحش الخطاب السياسي والإعلامي للحركات الجهادية العالمية، قاد بعض المحللين إلى التبشير بنهاية السلفية الجهادية الجديدة، خاصة أن الخطاب كما بينته الأحداث في سوريا والعراق عانى من أزمة كبيرة، كما أن اقتراب مواجهة هذه الجماعات مع حلف عالمي آخذ بالتشكل في الموصل والرقة وإدلب، زاد من قناعة هذه التحليلات بزوال المشروع الجهادي.
ورغم صحة بعض النتائج التي تأتي بها هذه التحليلات على مستوى التدمير الذي ستشهده جماعات مثل «داعش» أو «النصرة» في الفترة القريبة، خاصة أن الدول حالها حال الأحزاب السياسية تستلهم في مرات عديدة سلوكها السياسي – كما يرى ريجيس دوبريه- من الميثولوجيا الدينية القديمة، ولذلك لا تجد طريقة لإعادة تجديد العلاقة داخل الجماعة أو الحزب السياسي، أو داخل المجتمع الدولي (كما في حالة سوريا مثلا) إلا عبر البحث عن قربان يتم تحميله كل الأخطاء السابقة التي وقعت، وهو سلوك شبيه بسلوك الجماعات الدينية التي تعمل على تقديم كبش الفداء للتعبير عن التكفير عن ذنوب الجماعة، والرغبة في الحفاظ على وحدة الجماعة، ولذلك غالبا ما ينظر إلى هذا الكبش (النصرة وداعش اليوم) بوصفه الكائن الغريب الذي ساهم في تفتيت وحدة الجماعة والبلاد، إلا أن البحث حول مستقبل بعض الجماعات الجهادية اليوم لم يستطع توضيح مسألة أخرى تتعلق بمستقبل المشروع الجهادي في المنطقة، والذي بات يستند بالأساس إلى إسلام معولم يتوسع على حساب الإسلام المحلي والتاريخي. ولذلك نجد أن هذه التحليلات غالبا ما تمارس شكلا من أشكال الهروب إلى الأمام من خلال بناء تحليلاتها وفق قاعدة «ما يجب أن يكون» وليس وفق قاعدة «الأخذ بجدية المعنى» التي بات يعبر عنها الشباب في منطقة الشرق الأوسط، والذين باتوا يعززون برأينا، خاصة في السنوات الأخيرة من فكرة أن الرؤية السلفية الجديدة في انتشار وليس في انحسار، كما يعتقد البعض، حتى إن كانت هذه السلفية الجديدة لا تعبر عن نفسها من خلال السمتية الإسلامية التقليدية التي عرفت بها السلفية التقليدية (خاصة على مستوى اللباس والجسد). فالجيل الذي ولد مع بداية التسعينيات والذي شارك بحماسة شديدة في بدايات الربيع العربي وعبر عن فردانية دينية جديدة وعن قبول برؤية أكثر تسامحا تجاه قناعات الآخر، وجدناه مع التعثر الذي حدث لاحقا في الربيع العربي وما رافقته من مشاهد عنف لم تعهدها المنطقة في السابق، وفي ظل فشل المؤسسات الدينية التقليدية (سواء التي وقفت إلى جانب الدول العميقة، أو حتى التي ساندت المطالب الثورية)، وتجاهل السياسات الغربية لا بل ومشاركة بعض أطرافها بشكل مباشر في هذا الصراع، يندفع لإعادة النظر بما حدث عبر ربط هذا التراجع بسردية الصراع مع الغرب ومع الحداثة السياسية الغربية، التي برأيه هي «حداثة كولونيالية» بالأساس لم تكن لها مصلحة جدية في تغيير قواعد اللعبة داخل المنطقة، وبذلك فإن كافة اللاعبين المحليين (الأنظمة السياسية، المؤسسات الدينية التقليدية) وفقا لهذه السردية ليست سوى نتاج لتلك الحداثة الكولونيالية. وعلى المستوى الفكري نجد أن هذا الخطاب يعبر عن ذاته، خاصة بعد الأحداث الدامية في مصر من خلال الاهتمام الأوسع بكتب نقد الحداثة ودراسات حقل ما بعد الكولونيالية، أو حتى على مستوى الاهتمام ببعض القراءات الإنثربولوجية والسوسيولوجية التي تعزز من سردية هؤلاء الشباب حيال كولونيالية وسيولة الحداثة وأخلاقياتها، والجدير ذكره هنا أن الخطاب الأخير لم تعبر عنه فقط بعض الأوساط الشبابية القريبة من فكرة السلفية الجديدة في حياتها وخطابها اليومي، وإنما هذا الخطاب بتنا نشهده لدى شريحة يسارية عربية ساندت الثورات العربية، إلا أنها تشعر بإحباط شديد بسبب المواقف الغربية، ولذلك نجدها تعزز من فكرة أن الزمن السائد اليوم في العلاقات الدولية هو «زمن المذلولين» وفق تعبير السوسيولوجي اليساري الفرنسي برتران بادي، أو أنه زمن «ما بعد الديمقراطية» إذ لم تعد فيه الديمقراطية مصدر الروح الموجهة لعمل المؤسسات والدول. وبالتالي ففي الوقت الذي نشهد فيه خلافات حادة بين (الطرفين الإسلامي واليساري) حيال عدد من المسائل، إلا أننا أمام تقاطعات كبيرة على مستوى سردية الصراع السائد اليوم في المنطقة. ورغم أن الاهتمامات الفكرية السابقة تبقى اهتمامات نخبوية، وبالتالي لا يمكن تعميمها على حالة الشباب المسلم في الشرق الأوسط، إلا أن الأحداث التي شهدتها المنطقة في الأسابيع الماضية تؤكد أن السلفية الجديدة في المنطقة تشهد حالة من ارتفاع نسبة القبول والتأييد داخل الأوساط العامة، وأن هذه السلفية تخترق بعض المؤسسات السلطوية وبعض الأوساط الاجتماعية التي لطالما تميزت بإرثها الصوفي، وأن فكرة التدين الفرداني الفقير على مستوى الذاكرة والتاريخ (وهو أساس السلفية الجديدة)، والمتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعية في تصاعد.
وكمثال عن ذلك نشير إلى ثلاث حوادث جرت في الأيام الماضية. الأولى تتعلق بقتل السفير الروسي من قبل شاب تركي ينتمي إلى إحدى أهم مؤسسات الدولة التركية الحديثة. ووفقا لما ترويه بعض التقارير فإن الشاب العشريني لم يرتبط في السابق بأي تنظيم سياسي أو ديني تقليدي، إلا أنه يعيش كما بدا من خلال خطابه «لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا»، وكحال آلاف الشباب في المنطقة حالة من الإحباط حيال مشهد القتل اليومي الذي يعانيه السوريون في الداخل، وبحكم وجوده في أنقرة فقد كان الشاب شاهدا على مشهد الانقلاب التركي «المدعوم غربيا» بحسب بعض الأوساط الإسلامية، إضافة لذلك تشاء الصدف أن يعيش الشاب في فترة لم تعد فيها المؤسسات الدينية وحلقات تعليم القرآن داخل تركيا بتلك الفاعلية، بل على العكس من ذلك تعاني حالة من الانحسار، كما يشير إلى ذلك كتاب «التدين في تركيا: الإيمان وأنماط الحياة من خلال التجاذبات الاجتماعية» (أشرف على كتابته ثلاثة أساتذة في علم الاجتماع داخل تركيا، واستغرق ثلاث سنوات وشمل 8 مدن بين الأعوام 2008-2011). إذ تشير الدراسة إلى أن البرامج الدينية التلفزيونية داخل تركيا باتت تمارس تأثيرا أكثر على مستوى التعليم الديني. ولعل المؤشر الأخير الذي لطالما عد أحد المؤشرات الأكثر تأثيرا في ظاهرة السلفية الجديدة، ربما يؤكد أن جيمس بوند التركي (قاتل السفير) هو جزء من ظاهرة المتحولين أو المولودين الجدد، التي أخذت تنتشر داخل شوارع الشرق الأوسط، وأن هذا التحول الجديد عبر عن نفسه من خلال متخيل راديكالي ناقم يبحث عن معركة عالمية ضد الظلم «نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد»، وهو متخيل يحاكي طريقة عنف الأعداء على مستوى التنفيذ وعلى مستوى الصور، مؤسسا بذلك لشكل جديد من أشكال «الجهاد الهوليوودي»، إذ يمارس الجهاد على شاشات الإعلام بشكل يشابه حالة التدمير التي تمارسها القوات الروسية أو العراقية تجاه المدن السورية والعراقية. في الموازاة من هذا الحدث، كانت مجموعة من المتحولين الجدد (من بينهم عاصم أبو رمان/شرطي سابق في جهاز الأمن الأردني وفق تقرير جريدة «الغد» الأردنية) تقود نوعا جديدا من أنواع المحاكاة للعنف الداخلي للأجهزة الأمنية الأردنية، تمثل هذه المرة في هجوم جماعة محلية صغيرة (أخوة وأصدقاء) على المركز الأمني لتتحصن لاحقا في قلعة الكرك، وكأننا في فيلم سينمائي.
في سياق آخر، وبعيدا عن العمليات التي يقودها أبناء هذه السلفية الجديدة، نعثر في مكان آخر على تجل آخر من تجليات هذه السلفية الجديدة. إذ شهدت وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية حملة تبرع لسوريا. والحملة قام بها أفراد سوريون وتقوم على قبول الشخص بتحدي الأعمال الصالحة (إعلان التبرع على الفيسبوك لصالح إحدى الجمعيات الخيرية، والمبلغ يقدر بناء على عدد اللايكات والتعليقات). ورغم أهمية نوع كهذا من المبادرات على المستوى الاجتماعي، ومشاركة أوساط مختلفة في هذه الحملة (إسلامية وعلمانية) إلا أن ما يلفت النظر في هذه الحملة، هو أن غالبية من ساهم في ترويجها، شباب سوريون إسلاميون متواجدون في تركيا، الذين شاركوا بكثافة في السنوات الماضية بدورات التنمية البشرية، وهي دورات عادة ما تعمل على تشجيع التحول الذاتي الذي يمكن نعته بالنزعات الفردانية، من خلال المزج بين التنمية الشخصية على النمط الأمريكي وبين الإحالات إلى آيات من القرآن وسيرة النبي، كما أن ما يلفت الاهتمام في بعض أبناء هذه الشريحة هي رؤيتهم المغرقة في السلبية تجاه المؤسسات التقليدية الدينية السورية في إسطنبول، وهو ما عبرت عنه حالة الرواج التي شهدتها مدونة الجزيرة «مداجن دينية في إسطنبول» داخل الأوساط السورية في مدينة إسطنبول، إضافة إلى أن العديد من المشاركين ينتمون لعوائل أو يعملون في مؤسسات قريبة من المشهد السياسي المعارض في سوريا، وناقمون على هذه المؤسسات وفشلها في إدارة الملف السياسي والإنساني وعلى الغرب بسبب تركه سوريا، كما أنهم يعيشون حالة انعزال اجتماعي داخل الحياة التركية. وفي ظل العوامل السابقة، اندفع هؤلاء الشباب إلى خلق شكل جديد من أشكال الصدقة (رغم النوايا الطيبة) تقوم على فكرة «سوقنة الصدقة» وبطريقة أقرب ما تكون إلى فكرة السوق الدينية، التي تحدث عنها روا، والتي تشهد تفاعلا بين النزعة الفردانية ورؤية مبسطة لذاكرة القيم الدينية وطقوسها. ففي السابق مثلا نجد أن مفهوم الصدقة كان يقوم على مبدأ ديني مفاده «رجل يتصدق بيمينه، يخفيها عن شماله» ولذلك نجد أن التراث المحلي الإسلامي يعج بالحكايا عن رجل يطرق باب فقير في منتصف الليل، حتى أن هذا الشرط المتعلق بكتمان مصدر الصدقة وقيمتها ومحل صرفها لطالما بقي جزء من الثقافة العامة داخل المجتمع المحلي السوري في سنوات ما قبل الثورة، وكثيرا ما كانت فكرة صرف الصدقة المجتمعية مرتبطة بعبارة «العائلات المستورة» وفق التعبير الدمشقي. في حين نجد أن تحدي الأعمال الخيرية (تعبير أقرب لحملات الإغاثة الغربية) يقوم على فكرة أن قيمة الصدقة تقدر بعدد اللايكات والتعليقات (ليرة تركية مقابل لايك، وليرتان مقابل التعليق) حتى أن بعض المشاركين اندفع إلى استبدال الليرة التركية بالدولار، وبالتالي بتنا أمام سوق للثواب الديني وإعلاء مكانة الذات، وانقطاع في الآن نفسه عن «ذاكرة الكتمان» التي لطالما ارتبطت بمفهوم الصدقة. وهو ما يعني أن أفكار السوق الدينية تشهد انتشارا أوسع داخل الأوساط الشبابية( حتى لو أنها أوساط نخبوية بعض الشيء) مقابل انهيار أسهم الإسلام المحلي التقليدي التي تعايش معها هذا الجيل المشارك وتأثر بها في السنوات الماضية (العديد من المشاركين كانوا قبيل الثورة جزءا أساسيا من مؤسسات حركة زيد مثلا، أو جماعات سلفية علمية، بينما نجد أن العلاقة مع هذ المؤسسة شهدت فتورا ولأسباب متعددة بعيد الثورة)، وهذا ما يؤكد أن ظاهرة الجهاديين الجدد في ازدياد (لا يعني ذلك أننا نتهم هؤلاء الشباب بالترويج للجهاد وللعمليات الانتحارية) بل نعني من ذلك أن كل هذه الأشكال الجديدة من أشكال التدين تساهم في توسيع ظاهرة السوق الدينيّة التي تطرح فهما سلفيا للدين، ولعل هذه الرؤية هي التي تشكل الأرضية الخصبة للجهاديين اليوم. وأمام هذا التحدي يبقي السؤال كيف يمكن التعامل مع هذه السوق الدينية؟ خاصة في ظل غياب سياسات دينية جديدة تكون بديلا عن السياسية الأمنية الموجودة حاليا، ولأن أي سياسات دينية جدية تتطلب حالة من الاستقرار والفرص السياسية، وهي أبعد ما تكون عن ليالي الشرق الأوسط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى