المدينة والانتماء في ديوان «فرجة الغابة» للمغربي عبد الغني فنان

مراد الخطيبي

المدينة في الشعر شكل من أشكال الحداثة. وعدد كبير من الشعراء تناولوا الكتابة عن المدينة في نصوصهم الشعرية، نذكر من بينهم على سبيل المثال، الشاعر الأمريكي روبرت فروست.
وفي هذا الإطار، «تعتبر «المدينة» الخيط الرابط، بل ومسكن اللغة الشعرية في ديوان: «فرجة الغابة المضاءة بالغناء» للشاعر والمترجم المغربي عبد الغني فنان.
صدر الديوان الذي يقع في 71 صفحة من الحجم المتوسط عن المطبعة والوراقة الوطنية في مراكش سنة 2014. اللغة الفرنسية هي لغة الديوان الأصلية، بالإضافة إلى أنه يضم في دفته المقابلة الترجمة العربية التي أنجزها الشاعر رشيد منسوم.
وقد وفقت الترجمة العربية في الحفاظ على قيمة الديوان الإبداعية، عن طريق استعمال عدة آليات في الترجمة منها، ما هو مباشر مثل: الترجمة الحرفية، الترجمة بالدخيل أو الاقتراض، الترجمة بالنسخ. ومنها ما هو غير مباشر على غرار: الاقتباس والتصرف، المعادلة أو المقابلة، التكييف، التحوير باستراتيجياته الثلاث: تبديل الثابت، الترجمة بالزيادة، الترجمة بالنقصان أو الحذف.
الديوان هو احتفاء بالمدينة ومراكش المغربية تحديدا. هو احتفاء بطبيعة المدينة وتاريخها التليد. هو أيضا انتقاد لحاضرها بعد أن انتهكت معالمها الحضارية والجمالية. هندسة القصيدة خاصة جدا. ويتجلى ذلك مثلا في أن الديوان يستهل بكلمة «مدينة» وينتهي بكلمة «مراكش» ومن هذا التشكيل العمودي يمكن أن ننتج عنوانا للديوان وهو «مدينة مراكش».
عبر هذه الهندسة الفنية التي تعبر عن حس شعري عميق وفكر متقد، تتجسد المدينة بكل صيغها المادية والروحية والرمزية، لتمنح شعرا بخصائص إستيطيقية مختلفة. هذا الاختلاف والتنوع في التعامل مع المدينة يتشكل ضمن انفعالات نفسية مع واقع مدينة عريقة في القدم وفاتنة بطبيعتها. مدينة تغيرت ملامحها الآن حسب الشاعر الذي يتحسر لحالها ويعبر عن حبه لها، رغم الأسى والحزن الذي يعتريه. يقول الشاعر:
المدينة/القديمة
التي تهاجر فيما ليست تراه،
استيهام الماضي العتيق وشهوة الحاضر الأبدي.
المدينة/المؤمنة
الثابتة في شكلها الهلامي الدائري،
س ب ع ة
أولياء صالحين
العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر حاضرة بقوة في هذا المقطع. الذاكرة هي التي يستدعيها الشاعر لتوصيف المدينة انطلاقا من تاريخها المجيد. فالذاكرة بالنسبة له ليست شيئا جامدا بل شيئا متحركا. والذاكرة كما يقول عبد الكبير الخطيبي: «كالحاضر في المستقبل. فالماضي متغير، ليس هناك ماض مطلق ولا منته، هو كالهوية مجموعة من الآثار والبصمات تكون الذات وتكون الموجود كخريطة من آثار هي مرة أخرى مستقبلية». تصبح المدينة في هذا الديوان عنصرا جماليا ومعرفيا قائما بذاته. ويتم توظيفها من طرف الشاعر بشكل سلس وبانسيابية شديدة وعبر محطة مهمة من حياة الإنسان ألا وهي مرحلة الطفولة:
على حافة أقصى شمال ذلك الشمال المغناطيسي، كان لي بيت، بيت: غرفة، ووعاء، وفي فنائه، رقعة من العشب، شجرة الماندرين التي تجيد قراءة الفصول.
يلجأ الشاعر إذن إلى الحنين إلى الماضي ليس هروبا من الواقع، ولكن من أجل التعبير عن الفخر بالانتماء لمدينته وللتربة التي نشأ فيها. وأمله ثائر وأمنيته حالمة بغد أفضل وأجمل رغم الهجوم البربري على المدينة وعلى معالمها وعلامات تاريخها المشرق، ورغم أن الصورة البهية للمدينة لن تعود مرة أخرى:
يا مدينتي، أغنيتي ليست نشيدا لبجع يودع الحياة!
لأنني أعرف تماما: أن لا شيء سوف يكون كما مضى،
وأنه لم يكن هناك أبدا شيء كما كان من قبل
وأن الإنسان محكوم بأن يحب كل ما يتحول بعيدا عنه.
الارتباط القوي بالمدينة يتشكل أيضا عبر استعمال الشاعر لياء الإضافة كما في المقطع التالي:
تلك المدينة مدينتي،
أغنية قادمة من أعماق البحر
ويقول أيضا:
المدينة، مدينتي،
الضريح حيث ينام الولي والشاعر
على الحجر
وتبقى المدينة شامخة والشموخ كما يراه الشاعر يتأسس وفق حقيقة مفادها أن المدينة ليست شيئا مرئيا أو ماديا فقط، ولا بنية معمارية، بل إنها أعمق من هذا وذاك. عمق يتداخل فيه الشعور النفسي والبعد الحسي والموروث الثقافي والمرجع التاريخي. يقول الشاعر:
المدينة ليست سريرا بأربعة أعمدة حيث يتشابك صبي وجارية نوميدية تفتح صدرها من الشوق.
خيال خيال خيال
شرق غير مرغوب فيه
الصورة عنصر جمالي مهم داخل ها الديوان. والصورة بكل إيحاءاتها المجازية والاستعارية تجسد وبقوة مدى ارتباط الشاعر بمدينته. يمكن إعطاء مثال لذلك من خلال المقطع التالي:
المدينة قافلة/
جزيرة مغرة راسية
جزيرة زعانف ذهبية/
في عين السماء النارية
من خلال تفحص الديوان، يتبين أن اللغة تعكس بشكل واضح وجلي مستويات الانفعالات النفسية للشاعر اتجاه مدينته. فعندما يحاول ملامسة حاضر المدينة الذي لا يعجبه، فإن لغة الشاعر تصبح في شكل صرخة تنتقد مآل المدينة وتنتقد كل ما يحاك ضد معالمها. ويصبح النص «عنيفا» بتعبير الناقد الفرنسي مارك كونتار. يقول الشاعر:
المدينة المتغطرسة حيث الذاكرة وهج من اللهب والعلم والقتل في ذروة النهار.
المدينة الحمراء، الشرسة. من أصدر مرسوما بأنك لست غير مأوى للجنس؟
ورغم كل شيء، يبقى الشعر والغناء مصدرين من مصادر الوجود والعيش نكاية في الظلمة وقسوتها وأهوالها. والأمل الإيجابي هو مفتاح التحرر من مختلف السياجات التي تقيد المدينة بشكل أو بآخر:
لها السبب أنا أغني منحازا للأمل، لا أساوم
أغنيتي حقيقتي الوجودية،
قلعتي الأخيرة لدرء النسيان والشؤم
الحياة في هذا الديوان هي الملاذ وهي الخلاص وهي الكلمة التي يصوغ بها الديوان نهايته. والحياة هي للمدينة ولمدينة مراكش تحديدا:
لك الحياة أيتها العنقاء المنقوشة في جدران حدائق سرية
لك الحياة يا مراكش.
إجمالا، يمثل الديوان الشعري «فرجة الغابة المضاءة بالغناء» للشاعر والمترجم المغربي عبد الغني نموذجا مهما في حسن توظيف للغة الشعرية من أجل تعميق الحديث عن دلالات الانتماء للمدينة التي تمثل في الأصل استعارة عن الأمكنة وعن الأزمنة المتعاقبة، بل عن الهوية بكل تشكلاتها. رغم الجرح ورغم مسحة الحزن التي تطبع هذا الديوان الشعري من حين إلى حين، فإن لغته الساحرة أضفت عليه قيمة جمالية وفنية مميزة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى