منيف يوثق حال الشرق المتوسط اليوم قبل أربعين سنة

إلهام الطالبي
مع تكاثر المُنظمات التي تدعو إلى حماية حقوق الإنسان وصون كرامته لكن حجم المأساة تكبر يوما تلو اليوم في المنطقة الجغرافية المسماة بالشرق الأوسط، وذلك يبرر لنا العودة إلى ما قدمه عبدالرحمن منيف في “شرق المتوسط” حول الوسائل التي تتبعها الأنظمة الشمولية لإذلال الإنسان رغم أن هذه الرواية صدرت قبل أربعين عاما إلا أنها يصحُ إسقاط وقائعها على حاضر العالم العربي، إذ تتراكم الجثث وتستنشق الشعوب الموت وما زالت السجون مزدحمة بمن يطالب بحياة كريمة.

فهل يمكن أن نعتبر أن مؤلف “شرق المتوسط” كان سابقا لعصره، أم أن الزمن ثابت وقرابين الحرية تزداد يوما بعد يوم .. لاسيما وأن مؤلف “عالم بلا خرائط” لا يحدد مكاناً جغرافياً معروفاً في الرواية، بل يكتفي بالإشارة إلى أنها تحدث في بلدان “شرق المتوسط”؟

بالطبع فإنَّ “شرق المتوسط” رواية رائدة في الإلتفات إلى ما كان مُغيبا لدى القارىء العربي، إذ يضعك منيف من خلال روايته وسرده لمُعاناة السجين داخل عالم خالِ من القيم الإنسانية، يزج بنا منيف في سراديب السجن المظلمة وحرص على جمالية لغته التي تخللتها بعض الصور الشعرية، كما استطاع من خلال مهارته الروائية أن يصور تأثير الاعتقال على أفراد العائلة، متناولا التحولات التي تمس العلاقة بين السجين ووالدته.

إذ نجح عبدالرحمن منيف من خلال أجواء روايته في الإيحاء بأن من يكون خارج قضبان السجن لا يختلف في إحساسه بغياب الحرية وثقل الأغلال عمن يقضي حياته داخل الزنزانة، وذلك ما يتجسد أكثر في شخصية والدة رجب.

ما يجدر بالذكر هنا أنَّ للأم دورين مُتناقضين من جهة تُشكل قوة وسنداً للسجين عندما تشجعه على التحلي بالصبر، وتعتبر نقطة ضعف بالنسبة إليه عندما يكيل السجان الشتائم للرجب ويسب والدتها من جهة أخرى.

وفي السياق ذاته يحكي مؤلف “مدن الملح” عن وجع الامهات وكيف كن يطردن كالكلاب من بوابة السجن، وكانوا يقولون عنهن بغايا، لم تتوقف معاناتها عند هذا الحد بل تعرضت أثناء زيارتها هي وباقي أمهات المعتقلين لوزير الداخلية لضرب على أضلاعها ما عجل بنهايتها وأجل بنهاية سنوات، رفض حينها رجب الرضوخ لمطالبهم بتوقيعه وثيقة، يتعهد فيها أنه لن يشارك في أي نشاط سياسي بعد خروجه.

كان رجب يرفض التوقيع، معتبرا أنه خيانة لقضيته ولأن توقيع أي معتقل هو وسيلة للضغط على الآخرين كي يوقعوا أيضاً، بيد أنه بعد وفاة والدته تغير جسده أصبح هشا مستعدا لاستقبال الألم أصبح جسده كما يصفه المؤلف “عبثا عليه لا يتركنه ينام لا يتركه يتذوق الاكل”.

استطاع الروائي السعودي بحنكته الأدبية المعهودة أن يأخذنا لنلمس ما يجول في أعماق السجين من صراعات نفسية، مبرزا حالة رجب النفسية بعد توقيع على التعهد وهاجسه أن يقتل من طرف أصدقائه في زنزانة، “كانت الليلة الأخيرة صعبة كالولادة الميتة، توقفت الساعة التي في يدى أصبحت كالحجر أسود مشلول، ينبىء بالنهاية تملكني الخوف، حتى ظننت أنهم يتركوني على قيد الحياة، تصورت أني لو نمت لحظة واحدة، فسوف يطبقون علي ويقتلونني”.

استخدام منيف تقنية تعدد الرواة، أتاح للقارئ فرصة التعرف على الحدث من وجهتي نظر رجب وأخته أنيسة من خلال تناوبهما في السرد بين صوت “رجب” وصوت “أنيسة”، فيخصص الكاتب فصلاً لكل منهما بالتناوب إلى أن تكتمل الفصول الستة. “أنيسة” تقدّم الحدث من وجهة نظرها، فتروي عن حياة العائلة بعد اعتقال أخيها، وتحكي عن ما لحق بالعائلة من أزمات خلال سجنه وبعد خروجه، وبرغم من أن أنيسة كان تجسد الضعف بالنسبة لرجب وتدعوه الى الاستسلام وتوقيع التعهد إلا أنها لعبت دورا بارز في الرواية بالحفاظ على أوراق “رجب” التي كتب فيها قصة سجنه، فامتنعت عن حرقها كما أوصاها أخوها، ونشرتها ليقرأها كل الناس.

يعرض لنا المؤلف مشاهد للتعذيب المتوحش الذي يتعرض له المعتقلون بوسائل تدوس الكرامة الانسانية سواء بالتعذيب اللفظي أو عبر التعذيب الفيزيائي لجميع أجزاء جسد المعتقل، وتبدأُ مرحلة جديدة في حياة البطل المضاد حين يتوجه الى بلاد الغرب طلبا للعلاج ونداء للعدالة ورفعا الظلم، كما هو الحال المعتاد عند ما يطرق ضحايا الاستبداد أبواب المؤسسات الانسانية في العالم الغربي، لذلك لم تخل رواية منيف “شرق المتوسط” من استعراض مشاهد في الغرب لمعتقل تأبى ذاكرته أن تطاوعه وتمحو لقطات تعذيبه “السجن يا أنيسة في داخل الانسان أتمنى الا أحمل سجني أينما ذهبت أو مجرد تصور هذا العذاب يدفع الانسان الى الانتحار”.

حضور المشرق بأنظمته القمعية جعل مؤلف “ثلاثية أرض السواد” يبرز دور الغرب المتمثل في الدكتور فالي الذي لم يكن يسهر على علاج رجب فحسب بل كان يصغي لمعاناته، كما جاء في حوار رجب مع الدكتور “صدقني أيها الانسان الذي تعيش على الضفة الأخرى من المتوسط، اني لم احمل بندقية، ولم أقتل أحدا ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات كما تدق المسامير في أخشاب السنديان … ودق الرأس بالجدران عبارة عن بداية سمفونية العذاب، وبعد ذلك ضربوني بالسياط، كنت عاريا لما ضربوني كان يطفئون السجائر في جسدي في صدري في كل الأماكن الأخرى”، وأيضا بكى رجب بشدة أمام الدكتور فالي الذي عانى بدوره من استبداد الانظمة القمعية، كما أنه الوحيد الذي بقي من عائلته بعدما قتل أخوته ووالدته وزوجته، وتعرض للأسر.

أشار دكتور فالي في حواره مع رجب أن الجلادين والحكام لم يقرؤوا التاريخ وأنهم لو قرؤوه لوفروا على أنفسهم وعلى الآخرين الشيء الكثير، معتبرا أن الشعب هو من يدفع الثمن والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن، مضيفا أن العالم العربي الذي جاء منه رجب هاربا من سوط الأنظمة القمعية، لا يزال يعيش في التاريخ الذي اجتازه الغرب وقدموا دماء أبنائهم ثمنا ليتحول اليوم بالنسبة للمجتمعات الغربية إلى ذكرى.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى