سعيد الكفراوي: يصيبني الرعب عندما أتأمل ما يجري في العالم

فاطمة العبيدي

للكاتب حقه في أن يسرد علينا حكايته، ويقول الكاتب المغربي الراحل عبدالكريم الخطابي: «هات حكاية جميلة وإلا قتلتك». والقاص المصري سعيد الكفراوي لا يكف عن سرد الحكايات، تسمع صوته من بعيد كأنه يحكي قصة حياته، إنه فارس لم يهجر أرض القصة القصيرة كما فعل كثيرون، إنه المخلص لها وهو كاتب كبير له الآن باع طويلة في الكتابة القصصية. يتميز بقراءة خاصة للواقع، فعبر 12 مجموعة قصصية لم يغادر جذوره، ومنذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو يبحث عن طرق جديدة للسرد، ليصل إلى كتابة تختلف عن السائد. لا يكف عن محاولة اكتشاف أساليب تفضي إلى سرد مغاير، ومن ثم نجد تجربته القصصية تمتزج بالشعر، كما في «مجرى العيون، دوائر من حنين، كُشك الموسيقى، يا قلب مين يشتريك، البغدادية». هنا حوار معه:
> تبهرك الطفولة، وتحتل مساحة كبيرة في عوالمك. حدثنا عن تلك البدايات التي هي أشبه بسيرة لا تنتهي للطفل بداخلك.
– أكتب قصصاً كوَّنها وعي هذا الغلام، ذلك الكائن الذي آمن منذ البداية بأن يكون مكان ميلاده هو كونه الخاص، حين تختلط عليه أموره يستدعي ذاكرته. ثمة عالم هناك، أعني كان هنا ومضى بلا رجعة، أهدره الزمن ومتغيرات الأحوال. أتذكر أن البداية كانت طفولة غير رحيمة، أستعيدها فتبهرني وتدفعنى إلى السؤال: كيف تم ما تم وسط تلك القسوة؟ ولدت مع الحرب الكبرى وكنت أراهم يتجمعون على جسر النهر يشاهدون الطائرات المغيرة، لا شيء أدعى إلى الخوف من موت فادح، كانوا من دوار العمدة ينتظرون ثوباً من قماش وحفنة من دقيق، ومن ذلك التاريخ وحتى اليوم انطبعت في قلب الفلاح الحاجة الدائمة، والرغبة في السؤال: كيف يعيش الناس بكبرياء وغير محتاجين؟ كيف تسطر قصصك هذا العالم؟ ولا تزال لطفولة من القلب تلك الدهشة.
> هل تكمن أزمة القصة القصيرة في أن فرسانها هجروها؟
– حين تختلط الأمور وتبدو الساحة مفتوحة لإبداء الآراء العميقة الجاهزة، تصير النتائج هكذا ويصبح الزمن فضاءً لإبداع شكل واحد من الفنون، وعلى بقية الفنون الرحيل إلى أماكن أخرى مجهولة. أعترف أن فن الرواية هو الشكل الملائم لمواكبة المتغيرات التي نعيشها، تلك المتغيرات الفادحة في الأدب والفن والسياسة، إلا أن الولع بإبداع الفنون الأخرى يمثل قيمة تحظى بالسؤال ولا تزال عبر الزمن تعيش في مختبر الإبداع الإنساني وتمثل حواراً دائماً. فن القصة القصيرة شديد الصعوبة، وهو يمثل عند باسكال، «صوت الصمت الأبدي». أعتقد أن القصة القصيرة ترتبط أكثر بالشعر، وفي تصور كورتاثار، «إذا كانت الرواية تربح المباراة بالنقاط، فإن القصة القصيرة تفوز بالضربة القاضية».
> الأسطورة والقرية محوران أساسيان في قصصك، فهل ذلك نتيجة النشأة فقط أم لأهمية الأسطورة في العمل القصصي؟
– استلهمت أساطير وحكايات سمعتها وأنا صغير من جدة كانت تعي سر الأشياء وتتخاطر مع الغائبين، وتعرف سر الحيوان ولغته. كشفت أمامي عالماً زاخراً، وعبرها حاولت التعرف إلى تلك المنطقة الغامضة من واقع القرية المصرية. أدرك قيمة الخيال وتجلياته في الحكي المتكئ على الموروث. في طفولتي رأيت تلك المشاهد التي تزخر بالرموز والمعاني: فك العمل والمَس بالسحر والأجساد المسكونة بالأرواح التائهة. عالم بذاكرة لا تفنى، إذ يغذيها الخيال. كتبت عن ذلك الصبي الذي يسكنني، وفي وجداني أن الأسطورة هي تفعيل الماضي لكي ندخل في جدل مع الحاضر.
> هل السائد بات مرعباً أم أن الاختلاف هو أكثر رعباً؟
– في الحقيقة، يصيبني الرعب عندما أتأمل ما يحصل في العالم وفي المنطقة التي أعيش فيها، ألوذ بعد ذلك بالكتاب أقرأه أو بقصة أكتبها، وبمرور الأيام أصبح العالم لا يحتمل. كان جينيه يسعى طوال عيشه ليكتشف المكان السري داخل نفسه، وكان يرى أنه ليس للجمال أصل سوى ذلك الجرح المتفرد المختبئ أو المرئي الذي يواجه به الإنسان العالم. أواجه ما يحصل بكتابة نصوص تسائل الواقع وتسعى إلى استفزاز المتلقي وتحريضه على القلق في حياته اليومية البائسة. أنا لا أسعى إلى تقديم اختلاف ما ولا للمقارنة بما أكتبه من قصص مع قصص الآخرين، الأمر من الأول والآخر هو اختيار وتنتمي أنت له. جزء عالم زاخر بالأسئلة والأحلام تكتبه بقدرتك على إنشاء ذلك النص بصدق. أنا لا أبتعد عما يكتب أو أنأى عنه. أنا أتورط حيث تكون الكتابة الجيدة لأنها في أغلب الأحيان تستدعي قراءة جيدة. وأنا أعيش بهَم البحث عن قراءة جيدة وتأمل ما يحصل حولي بشغف.
> كيف ترى الزحف نحو جوائز الأدب؟
– منحوني هذا العام جائزة الدولة التقديرية في الآداب. أنا أنتمي إلى جماعة من الكتاب لا تنتظر جزاء عما كتبت، «هي تكتب وخلاص». أنا سعيد جداً بجائزة تمنحها مصر لكاتب من كتابها وتقول له شكراً، وأؤكد أن قيمة أي كاتب في الحقيقة تنبع من قيمة ما يكتب، ومن التزامه بقيم الكتابة الإنسانية، كما أن على الجائزة أن تتسم بالموضوعية والنزاهة وتقدر بعدل عمل الكاتب وليس شخصه، ولقد كثرت الجوائز في عالمنا العربي وهذا فعل مشكور بشرط أن يكون الإبداع الجيد سبباً وحيداً للحصول عليها.
> هل كنت إسماعيل الشيخ في رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ؟
– الأحداث في الرواية تشير نحوي. بعد هزيمة 1967، كانت مصر تعيش زمن اكتشاف الحقائق وتأمل ما حصل ومساءلته فيما صوت الزعيم قد شرخته الهزيمة. كتبت يومذاك قصة أسميتها «المهرة» نظرت إليها أجهزة الأمن باعتبارها قصة رمزية تحمل معاني تسيء إلى الزعيم. كنت في تلك الفترة لا أزال أعيش في مدينة المحلة الكبرى. رحل الزعيم الخالد، وأنا ببركته، حللت ضيفاً على معتقل القلعة الرهيب. كنت وحدي في زنزانة، ولكن كانت تصلني أصوات من يتم تعذيبهم. كان يتم التحقيق معي في الصباح باعتباري من جماعة «الإخوان المسلمين». وفي المساء تكون تهمتي هي الانتماء إلى تنظيم شيوعي. استمر الأمر ستة شهور وحين اكتشفوا أن الحدوتة كوميديا سوداء أفرجوا عني، فخرجت أحمل على كتفي حقيبة قديمة فيها بعض المتاع الذي لازمني، بدل أن أعود إلى قريتي توجهت إلى مقهى «ريش» في وسط القاهرة، وما إن رآني نجيب محفوظ حتى طلب مني أن أحكي له الحكاية بالتفصيل. وبعد شهور صدرت رواية «الكرنك»، حينذاك وضع يده على كتفي وقال لي مبتسماً: «على فكرة يا كفراوي إنت إسماعيل الشيخ في رواية الكرنك».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى