العصر الذهبي للموسيقى العربية في كتاب مصور

عمار المأمون

تعمد الفنّانة والرّسامة اللبنانيّة لميا زيادة في كتابها “يا ليل، يا عين” إلى إعادة سرد الأحداث التاريخيّة مع اللوحات التشكيليّة والتخطيطات الفنيّة، محاولةً استعادة عوالم فترة بدايات القرن العشرين، والعبق المحيط بها وتلمس الهالة التي تتوج شخوصها، لننغمس خلال ما يقارب الخمسمئة صفحة في عوالم الفن والطرب والاستعراض بين عواصم الشرق، دمشق وبيروت والقاهرة والقدس، إذ نمرّ بمعالمها التي مازال بعضها قائما حتى الآن، والبعض الآخر زال وتلاشى كالسينمات والمقاهي وغيرها.
كاباريه بين الصفحات

يندرج الكتاب، الصادر عن دار “نوفل-هاشيت أنطوان”، ومن ترجمة جان هاشم، ضمن الرواية التاريخيّة المصوّرة، إذ تعتمد زيادة على عدد كبير من المراجع الرسميّة، كالنصوص والمقابلات والكتب والأفلام التي تشكل أساس المادة التاريخيّة، لتصوغها بعد ذلك بلغة سرديّة حميميّة تجاورها لوحات من رسمها، تلتقط أبرز مشاهد تلك الفترة وأحداثها، أمّا ما يضبط خط السرد في الكتاب فهو التاريخ الشخصيّ لكل واحدة من تلك الأيقونات الفنيّة.

يبدأ الكتاب، الذي صدر لأول مرة باللغة الفرنسية عام 2015، بولادة أسمهان، والنبوءة التي قالتها لها العرافة “على الماء ولدت وفي الماء تسكنين”، ثم هجرتها مع أخيها فريد نحو القاهرة، وعملها بالخفاء كي لا يفتضح أمرهما بوصفهما أمراء من السويداء، لنقرأ بعدها الحكايات الفرعية لنجوم تلك الفترة وراقصاتها كتحية كريوكة وبديعة المصابني وغيرهما، لينتقل بعدها السرد للتركيز على مسيرة أم كلثوم ونشأتها وعلاقتها مع أحمد رامي ومحمد عبدالوهاب والقصبجي، هذه الخطوط الرئيسية تتخللها سير صاحبات الملاهي الليلية في القاهرة ونشأة كل منهن، إلى جانب تفاصيل ظهور السينما في مصر وبداية الأفلام الصامتة ثم الناطقة ونجومها.
وعلى التوازي، نقرأ العلاقات الغرامية للفنانين ومغامرات الكحول والعشق والفجور. الكتاب مليء بالأحداث المثيرة والتي تدفع القارئ إلى المتابعة دون انقطاع، طرب أصيل، فضائح سياسية وجنسيّة، إلى جانب مكائد سريّة كانت تحاك في الكواليس تتيح لنا فهم ما كانت تمر به المنطقة، أشبه بعرض “كاباريه” بين أيدينا، ففيه الميلودراما والمآسي وفيه الأفراح والمجون، لكن هذه المرة كقراء لنا القدرة على اكتشاف خفايا العرض وتاريخ شخصياته بعيدا عن الخشبة.

يحتفي الكتاب بالحقبة التاريخيّة المذكورة، ويقدم دفقا من النوستالجيا لزمن البدايات، أقرب لـ”باستيش” مليء بالعاطفة، إذ لا يحتوي انتقادا أو محاكمة لهذا التاريخ على الصعيدين السياسي أو الفنيّ، بل يكتفي بذكر الأحداث الشائكة التي مازالت عالقة في الذاكرة والمعلومات المختلفة عنها، كوفاة عبدالناصر وأم كلثوم، وتفاصيل النكسة والنكبة وبعض خفاياهما، إلى جانب ذلك نقرأ جانبا آخر يعرّفنا على الأفراد الذين صنعوا هذا التاريخ، لنرى أخبارهم الحميمية، صعودهم وانهيارهم.

كما يضم الكتاب شعراء وأمراء، وراقصات، ومصرفيين، وضباطا، وأئمة، وشيوخا، وممثّلات، وخواجات، وموسيقيين، وغاويات، وسهارى، ومتمردين، وسلاطين، وباشوات، وبكوات، وجاسوسات، وعباقرة، وملوك مصر وأهل بلاطها، وأيضا صحافيين بارزين، ملحّنين مشهورين، صاحبات ملاه، كبار الحجّاب، وعازفي عود. فيه الفلاحة الآتية من دلتا النيل والأميرة الدرزية، ابن المؤذّن والمطرب الوحيد، النجمة اليهودية والعقيد البطل.
الفن بصبغة سياسية

ترسم لنا المؤلفة لميا زيادة خصوصيّة كل شخصيّة، مثل أم كلثوم وفيروز وعبدالوهاب وفريد الأطرش وسامية جمال وليلة مراد ونور الهدى وصباح وفيروز، بعيدا عن الشاشة، وأسرار أولئك النجوم وحكاية كلّ منهم قبل الشهرة وبدايتهم المتواضعة، ثم بعدها، حين تتنوع المصائر نرى حالات الانتحار أو الاغتيال، أو مجرد عزلة عن العالم بعيدا عن أضواء الشهرة والألق الفنيّ.

في “يا ليل، يا عين” نتلمس العلاقة بين رجال السياسة وعالم الفن، والتأثير المتبادل بينهما، لنرى مثلا أم كلثوم وبالرغم من أنها معشوقة الجميع وكوكب الشرق لمكانتها وقدرتها الفنيّة، كانت تغني لعبدالناصر ومن قبله الملك لتكون أشبه بأداة سياسيّة بغض النظر عن محتواها وقيمته، في حين نرى من جانب آخر فيروز والرحابنة، الذين رفضوا أن تغني أو تحيي فيروز حفلة لأي زعيم أو تقيم حفلة على شرف أي سياسيّ.

كما نرصد، في ذات السياق، نزعة الفنّ للاستقلال عن السياسة من جهة ورأس المال الغربي من جهة أخرى، كافتتاح أوّل استديوهات في مصر بتمويل مصري وفنيين مصريين. لنقرأ أيضاً التغيّرات في مكانة الفنان وطبيعة “الفن” ذاته، ففي البداية ولفترة طويلة اعتبر الفن والعمل بالفن “مُعيبا”، وكانت السطوة الذكوريّة الأبوية لفترة طويلة محيطة بفنانات تلك الفترة كأم كلثوم وفيروز، في حين أن الراقصات كنّ دائما هاربات، منفيات عن أسرهن، بالرغم من ذلك، كلّ منهن عملت وحيدةّ وكافحت في سبيل حريتها، وتحقيق حضورها الجسدي والفنّي، ليتحول الرقص إثرها وفنون غواياته إلى صيغة دائمة في أفلام تلك المرحلة، بوصفه عنصرا أساسيا في أي فيلم، لتكون السينما حاملة لفنين آخرين معها؛ الرقص الشرقي والغناء، فالصنعة السينمائية كانت قائمة على النجوم وحضورهم وشهرتهم لا طبيعة وحرفة السينما ذاتها.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى