زادكين رسام «مصائر» الحرب الأولى

أوراس زيباوي

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كان النحات أوسيب زادكين في السادسة والعشرين من عمره ويقيم في باريس التي استقر فيها منذ عام 1909 بعد هجرته من روسيا حيث ولد. لم يقف على الحياد إزاء ما سمعه وشاهده عن أهوال الحرب، بل اختار عام 1915 أن ينخرط فيها بصفته ممرضاً ومسعفاً ملبياً نداء الأديب والشاعر بليز ساندرارز الذي دعا الأجانب المقيمين في فرنسا إلى مساعدة الفرنسيين في محنتهم. وأثناء عمله الإنساني تحت القصف وتواجده في الثكنات العسكرية والمستشفيات وعلى أرض المعركة في شمال فرنسا، تعرض هو أيضاً للغازات السامة فأدخل إلى المستشفى وسرّح من الجيش عام 1917 بسبب إصاباته البالغة التي تركت أثراً عميقاً على حياته ونتاجه الإبداعي. وكشف هذا النتاج عن قدرة زادكين على جعل المعاناة الإنسانية تحفاً فنية جعلت منه واحداً من ألمع نحاتي القرن العشرين الذين تركوا بصماتهم على أجيال من النحاتين في العالم ومنهم النحات اللبناني الراحل ميشال بصبوص.
ما يدفعنا إلى الحديث عن زادكين اليوم هو المعرض الجميل الذي يعد الأول من نوعه والمقام حالياً تحت عنوان «مصائر حرب» في المتحف الذي يحمل اسمه في قلب العاصمة الفرنسية بالقرب من حي مونبارناس الشهير. يضم المعرض مجموعة كبيرة من الرسوم والمحفورات التي أنجزها إما أثناء وجوده في الجبهة أو بعد عودته إلى محترفه عام 1917 بعد إصابته بمرض السل. اللافت أن منظمي المعرض لم يعرضوا الرسوم والمحفورات المتعلقة بتجربة الحرب عند زادكين في ركن واحد من المتحف، إنما عمدوا إلى توزيعها بين منحوتاته المعروضة في شكل دائم، فجاءت وكأنها امتداد لها من حيث الرؤية الفنية.
الجامع بين الرسوم المعروضة هو طغيان اللون الأسود الذي جسد من خلاله الفنان التجربة التي عاشها بين الجرحى والقتلى. أجساد ممددة على الأرض أو مسترخية فوق حمالات الإسعاف التي ينقلها المسعفون. أكفان، أشكال جنود وبقايا سيارات عسكرية وخنادق حوّلها الفنان بقلم الفحم إلى خطوط حادة، أفقية وعمودية. بدت الأجساد وكأنها محاصرة داخلها أو كأنها جزء منها. خطوط عنيدة مروّسة، بعيدة عن الغنائية قريبة من الحس الفجائعي. لا حاجة هنا إلى النظر في الوجوه لتحسس كثافة المعاناة التي عاشها أصحابها. التعبير عن الحرب يتأتى من مكونات اللوحة بأكملها ولا يقتصر فقط على تلك الملامح التي اختلطت ببقية التفاصيل التي تتألف منها تلك الرسوم. تصوّر الأعمال المعروضة أيضاً، بالإضافة إلى الجروح والكدمات المتمثلة في بقع سوداء، الأجساد المبتورة الأطراف مما يظهر ما تتركه الحرب من آثار بليغة على الجسد والنفس معاً. على أي حال تكشف هذه الرسوم عن رؤية زادكين للحرب عاشها بجسده وروحه كما ذكرنا. كما أنه وقبل أن يرسلوه إلى الجبهة كان شاهداً على مأساتها لأنه ومنذ ربيع 1916، كان على احتكاك مباشر مع واقع المأساة لأنه عاين عن قرب الضحايا الوافدين من الجبهة إلى المستشفيات. ولقد أراد زادكين من خلال أعماله هذه الابتعاد عن الوصف. أراد فقط الإيحاء بالقلق والخوف وهاجس الموت، وبالكثافة الإنسانية، وهذا ما سعى إليه فنانون كثر عبروا عن موضوعة الحرب في مراحل مختلفة، ومنهم على سبيل المثال الإسبانيان غويا وبيكاسو والفرنسي مانيه والتعبيريون الألمان.
تصادف إقامة المعرض الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي كانت من أكثر الحروب دموية بسبب ما خلفته من دمار على الصعيدين المادي والبشري. ويكشف المعرض وجه زادكين الملتزم ومواقفه الإنسانية التي لم تكن على حساب الشروط الفنية والجمالية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى