رحالة فرنسي معاصر على خطى مغامر فرنسي آخر من القرن 19 في ليبيا

حسونة المصباحي

يشير الكاتب الفرنسي جان-ماري بلاس روبلاس، في كتابه “قي ليبيا على خطى جان-رايمون باشو”، إلى أن اهتمامه بليبيا وتاريخها القديم والمعاصر هو ثمرة عمله ضمن البعثة الفرنسية التي قامت خلال عامي 1985 و1986 بحفريات في الميناء القديم لشحات التي كانت تسمى قورينا أو قورني في العصور اليونانية، والواقعة في أقصى شمال غربي ليبيا.

وخلال الفترة التي أمضاها هناك مُلتهما كتب المؤرخين القدماء، خصوصا اليوناني هيرودوتس، انتبه إلى أنّ مدنا كثيرة كانت آهلة بالسكان في العهود اليونانية والرومانية اختفت وغمرها البحر أو رمال الصحراء مثل شحات ومثل لبدة.
معلومات مثيرة

يحوي الكتاب، الصادر عن دار بلون بباريس ضمن سلسلة “الأرض البشرية” المهتمة بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في أواخر عام 2016، على معلومات مثيرة عن تاريخ ليبيا في العصور اليونانية والرومانية، وفي القرن التاسع عشر تحديدا حيث تتبدّى لنا صراعات ونزاعات بين القبائل شبيهة إلى حد بعيد بما يحدث في هذه البلاد منذ سقوط نظام معمر القذافي.

وكان الجغرافي اليوناني سترابون يصف منطقة شمال أفريقيا بجلد فهد هائل الحجم. فهناك مساحات شاسعة من الصحاري المائل لونها إلى الحمرة، عليها تظهر هنا وهناك مناطق عامرة بالسكان. ويرى روبلاس أن هذا الوصف ينطبق على ليبيا.

في نفس الفترة أتى روبلاس على مؤلفات الرحالة الأوروبين الذين درسوا أحوال ليبيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.وفي عام 1790، أصدر الإسكتلندي جيمس بروس 5 مجلدات فيها يروي قصة الرحلة التي قام بها إلى ليبيا وصعيد مصر بين عامي 1768 و1772. وفي عام 1812، أرسل باشا طرابلس جيشا لمنطقة شحات مرفوقا بطبيب إيطالي يدعى أغوستينو سارفالي راغبا في تأديب ابنه الذي تمرد عليه، والذي كان يحكم درنة. وقد سجّل هذا الطبيب ملاحظات هامة عن شحات..

ويشير روبلاس إلى أن أغلب الذين قاموا بهذه الرحلات فشلوا في مهامهم لأسباب عدة، منها أنهم جعلوا رغباتهم فوق طاقاتهم المادية والمعنوية. ومنها أنهم كانوا جاهلين بأحوال الطقس، وبصعوبة الرحلات في الصحراء التي يقول المثل العربي إنها تلتهم كلّ من لا يعرفها. وكذا كان حال الرحالة الفرنسي جان-رامون باشو، الذي ركز عليه روبلاس بحثه، مقتطفا فصولا هامة من الكتاب الذي خصصه لرحلته عبر ليبيا.

وكان باشو، المولود في يناير 1794، رسّاما وشاعرا تحول فجأة إلى مغامر يطمح إلى الذهاب بعيدا لاستكشاف المناطق المجهولة، والتعرف على المدن القديمة التي اندثرت. وبعد أن طاف في مصر، توجه إلى ليبيا. وفي الجبل الأخضر، التقى بعرب أولاد علي الذين وصفوا له منطقتهم بهضابها الخضراء، وروعة آثارها التي تعكس أمجادها القديمة.

بدأ باشو رحلته التي رافقه فيها رجلان من أولاد علي بعد أن أكد له شيخ القبيلة نبل أخلاقهما ملتفا في عباءة الصوف التقليدية. وقد حرص باشو على أن يتقيد بتقاليد سكان المناطق التي يمر بها، وأن يحترم طريقتهم في العيش. ومع رفيقيه الأمينين كان يسافر في النهار، ويستريح في الليل. وعادة ما يرافق عربا آخرين يبحثون عن الكلإ لمواشيهم وأغنامهم وإبلهم. ولكي يكسب ثقتهم كان يتحدث معهم من دون أن يشير إلى ديانته، ولا إلى المشاريع التي يعتزم إنجازها. وغالبا ما يحقّق هدفه.
قصص غريبة

يشير جان-رايمون باشو إلى أن العشرات من الرجال يزعمون أنهم حجاج ذاهبون إلى مكة أو عائدون منها، غير أنهم لا يختلفون في سلوكهم وفي أفعالهم عن اللصوص وعن قطاع الطرق. فهم يسلبون المسافر لمّا يكون وحيدا، ولا يترددون في ذبحه بالخناجر التي يخفونها تحت برانيسهم وعباءاتهم إن هو رفض الرضوخ لأوامرهم.

مع ذلك ثمة عرب فقراء لم يتمكن الجوع والخصاصة من محو النبل الذي يضيء ملامحهم. ويعود ذلك إلى هذا العربي القنوع بحياته البسيطة في الصحراء، ولا يتأفف أبدا من الشقاء الذي يصيبه من حين إلى آخر. فذاك قضاء وقدر. ويحرص باشو على تسجيل ملاحظاته عن البشر وعن المناظر الطبيعية التي يشاهدها..

وكانت البلاد في تلك الفترة تعيش اضطرابات خطيرة، ونزاعات متواصلة بين مختلف القبائل والعروش. وكان سكان المدن يخشون السفر في الصحراء خشية أن يقتلوا. وقد رغب القنصل البريطاني في بنغازي أن يرسل جملا محمّلا بالسكر والقهوة إلى باشو إلاّ أن عرب الصحراء هجموا على الجمل وقتلوا واحدا من الخدم.

أما العبد الذي كان مسلحا والذي حاول الدفاع عن نفسه، فقد أصيب بجروح خطيرة. وعن شحات كتب روبلاس يقول “ضحية عصابات متوحشة، تتمدّد قورينا اليوم مجهولة. والزمن الذي جمع في حضنها في فترات مختلفة شعوبا كثيرة، خلط بين آثارها، وشتت معالمها. والمعالم الفنية اختفت. شاهدة على ملاجئ لوثتها أجناس ماضية’”.

بسبب إخفاقه في نشر رحلته إلى ليبيا، أحرق باشو كل مخطوطاته، ثم أنتحر يوم 26 يناير 1829. بعد بضعة أسابيع على انتحاره المريع، صدرت رحلته إلى ليبيا في مجلدين.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى