كاتب مصري يمتدح الألم في سيرته الذاتية

يمكن وصف كتاب “في مديح الألم” للكاتب والباحث المصري سيد البحرواي بأنشودة عذبة للحياة، فالكتاب من جنس السيرة الذاتية، يحكي فيه البحراوي بطريقة أدبية عن تجربته الواقعية، إذ يروي تفاصيل يومياته خلال علاجه من مرض السرطان، الذي اكتشف الإصابة به وغير ذلك من نظرته إلى الحياة والأدب.

ينقل لنا المؤلف في كتابه، الصادر حديثا عن دار “الثقافة الجديدة” بالقاهرة، كيف اكتشف أن الألم قرين للحياة، مثل السعادة أو الراحة، وأن كل الكائنات الحية تشعر به وتحاول البحث عن وسائل للهروب منه. الطريف أن الكاتب يكتشف معاني أخرى غير تلك التي نألفها عن الألم، مكاشفات وليدة لتجربة حياتية صعبة، لكنها كانت بمثابة الضوء الكاشف لزوايا معتمة من الحياة، ينشغل عنها الإنسان بما هو يومي واعتيادي.

يقول البحرواي “كنت أحاول أن أعيش بأقل قدر من الألم والتعاسة، وأقل قدر ممكن من إزعاج الآخرين، كما كنت إلى حد ما سعيدا، وحين فكرت في احتمال الموت، لم أكن منزعجا، فليأت إذا أراد، لكني على كل حال أستطيع أن أعيش ما بقي من العمر”. ويضيف “احتمال الموت يجعلك أكثر قدرة على مراقبة تمثيليات الأحياء لترتيب مستقبل حياتهم، وما فيها من سذاجة وطفولة”، ربما كانت هذه المقولة طريق المؤلف إلى كشف عميق لما أراد قوله في كتابه “في مديح الألم”.

فالكتاب غني بمقولات طريفة، فمثلا عندما تعرف أن “عكس كلمة الألم الراحة وليس السعادة”، فإنك تقرأ الكتاب وتنتهي منه وتظل هذه الجملة ساكنة في روحك لا تفارقها أبدا، كأنها اكتشاف “لغوي وفلسفي”، إذ تعود أفكار الكاتب إلى ما عايشه هو ذاته، فتقدم صورا مغايرة وتشبيهات وتمثلات مختلفة عن المألوف. الكتابة عن المرض ليست بدعة، فالكثير من الكتاب العالميين كتبوا في هذا الصدد من قبل، لأنهم عندما وجدوا أنفسهم في محنة الألم تفجرت داخلهم حكايات ومقارنات وتعليقات، واكتشفوا أنهم في حاجة إلى التعرف على أنفسهم من جديد كأنهم يولدون مرة أخرى. ولا أدلّ على ذلك من قصيدة الحمى التي كتبها المتنبي أشهر شعراء العربية.

لكن هنا نتساءل لماذا يمدح سيد البحراوي الألم، ويجيب عن ذلك يقول “انشغلت بموضوع الألم، وشغفت به نحو عام قبل أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفت إجباريا، لكن بعد انتهاء العلاج المؤلم أعود إليه. أريد أن أمجده، باعتباره قرين الحياة، فلا حياة بلا ألم”. والملاحظ في ما فعله البحراوي في يومياته، أنه بعد دهشة البداية، انفصل عن شخص الإنسان المريض وبدأ في مراقبته، محاولا التعرف على نفسه من جديد، التي تبدو له ولنا ذاتا جديدة نكتشفها رفقة كاتبها ونجول في ثنايا حياتها وهواجسها. يقول الكاتب “أحاول إعادة التعود على البيت، خاصة أشيائي الحميمة: الأوراق والأقلام، للتأكد من أنها ما زالت موجودة وفي مكانها”، هنا نرى بابا آخر ينفتح مع المؤلف في اكتشاف أكثر أشيائه اعتيادية، ويسرنا كذلك بأمر طريف آخر مثل إصراره على ممارسة التدخين لأطول فترة ممكنة، لأنه لم يشأ أن يخضع لشروط المرض منذ البداية.

المحنة التي يرويها الكتاب بكل جرأة وصدق لا تدعو إلى بكائية تستثير العطف، رغم ما كانت مشحونة به من عاطفة هي عاطفة إنسان يقف أمام الموت ويفكر في الحياة، محولا كل تفاصيل النهاية إلى بدايات جديدة، يحدثنا عن حب الورق وأقلام الحبر، عن الأسرة وتقاربها وتباعدها، عن العلاقة الإنسانية الأصيلة منها والزائفة، عن تلاميذه، عن الأصدقاء الطيب منهم والشرير، عن التاريخ والحاضر والمستقبل. حديث يمتد ليشمل حتى الجامعة والمستشفيات والبلد والثورة والظروف الاقتصادية والجامعة العربية والمرحلة الانتقالية، عن العصافير وغرامها، عن الأخوة ومعانيها، عن الخير وصانعيه، عن الإنسان بحزنه وفرحه.

كان اختيار فكرة اليوميات للكتاب موفقا، حيث تنوعت نصوص الكتاب وأفكاره بين يوم وآخر، فلكل يوم له حالته النفسية الخاصة حسب الإحساس بالألم، لذا وجدنا تنوعا فى الكتابة بين التفاؤل والتشاؤم والأحلام والانكسارات، كذلك نجد تعددا كبيرا في الموضوعات. يقول الكاتب “لست نادما على أي شيء فعلته في حياتي، ومستعد دائما لتحمل النتائج”، هذه واحدة من أهم المقولات التي تمحور حولها الكتاب، الذي يعلي من شأن كل تفاصيل الحياة ويوليها مكانة، حتى أنه يعيد لفت انتباهنا إلى كل الأمور التي كنا نظنها عادية وساذجة في حياتنا.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى