كاتب صيني: في الموت كما في الحياة لا عدالة ولا مساواة

بسمة علاء الدين

يختار الكاتب الصيني يو هوا في روايته “اليوم السابع” فكرة عالم الأحياء الأموات، الذي يكون عادةً مكاناً مخيفاً ولكنه في روايته مكانٌ رائع، كالنبع الصيني الأسطوري المحاط بشجر الخوخ، مع بعض الفروقات.

يروي يانغ فاي، خلال سبعة أيام بعد موته قصة حياته، إذ يسترجع ذكرياته الماضية ويلتقي بالأموات، يحكي قصة ولادته وسقوطه من مرحاض القطار، حفرة في أرضية قطار الصين حين غفلت أمه عن حمله، فتصرخ الأم “فقدت ابني، فقدت ابني”. ولد يانغ فاي على متن قطار متحرك. فقد من قبل والدته، أثار البساطة والحب المعتمدة، هو غير مستعد تماما للتغيرات التي تنتظره هو وبلاده. كان شابا يبحث عن مكان للانتماء إلى بلد وإعادة اختراع نفسه دون توقف، لكنه لا يزال على حواف المجتمع.
جنازة لشخص حي

يرى فاي نفسه جثة تعيش خارج قبرها، أين يلقي الأموات نظرة ثاقبة إلى الصين اليوم فتبرز بشاعة واقعها بالمقارنة مع جمال العالم الآخر، فهي مزيج من الخيال في سريالية ساخرة وعبثية لا توصف، حتى أن القارئ يجد نفسه في دوامة من الصور الغريبة إلى درجة أنه يصير شاكا في كل شيء من حوله، وغير متأكد مما يجري في الرواية.

في “اليوم السابع”، الصادرة مؤخراً بالعربيّة عن “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب” في الكويت بترجمة عبدالعزيز حمدي عبدالعزيز، نلتقي الراوي يانغ فاي في أرض الموتى. يانغ هو رجل متوسط القامة يبلغ من العمر 41 عاما، رجل بلا أطفال، لا يملك الكثير من المال وآفاقه ضيقة ومحدودة. يغادر بيدسيت ويمشي على غير هدى “في مدينة قاحلة وغامضة”. يتلقى إشعارا غريبا يعلمه بموعد جنازته الخاصة، فيسارع إلى تنظيف نفسه ويشرع في اختيار أرقى أنواع الثياب، ثم يضع الملابس المناسبة، ويضع شارة سوداء كي يتذكر أنه رجل واحد.

عندما يأتي دوره في صالون الجنازة، يختار يانغ فاي البقاء في مقاعد الحاضرين وتخطي جنازته، يعود ليجد نفسه يدفن في أرض فيها كل الشخصيات التي ليست لها قبور، لكن المكان لم يكن مرعبا، بل كانت الأشجار الجميلة تلفه من كل مكان وكانت أوراقها على شاكلة القلوب.

في هذا المكان لم يجد الكثير من الناس قبورا فظلوا يروحون ذهابا وإيابا، هائمين على وجوههم، لا مكان للكثيرين، كما توجد عظام فقط في العديد من الأمكنة. ظل فاي يحاول اللحاق بهم مطاردا المكان ويبحث عن والده الذي اختفى أيضا ويفترض أن يعثر على رماد جثته بعد حرقها. لكن فاي يتأكد في النهاية من أنه أرسل إلى مكان لا تهدأ الأرواح من التجوّل فيه، كأنما هو في “دولة الأرواح الهائمة”، دولة لا قانون فيها ولا عدالة ولا مساواة، كأنما هي دولة أرضية وليست دولة “الموت والدفن”.

يعيش فاي سبعة أيام من التيه، يلتقي أناسا آخرين في حياته والذين لقوا حتفهم أيضا، فيلتقي هناك زوجته السابقة، وهي سيدة أعمال جميلة وطموحة انتهت حياة أسرتها بفضيحة فساد مدوية.
سريالية عميقة

في سريالية عميقة، يفتح يو هوا المشهد كاملاً في روايته حتى يشمل ضحايا اقتصاد السوق وصناعة الموت في الصين التي لا تزال قائمة ولا تزال الصين تعاني منها، وعرض ملفات للفساد، وعنف الشرطة والقمع السياسي وهدم المنازل على سكانها، بالإضافة إلى حكايات سوء المعاملة التي يعاني منها المواطنون الصينيون العاديون على أيدي الأقوياء والأثرياء.

من جهة أخرى تبدو البعض من هذه القصص، كما لو أنها مستمدة من صحافة الإثارة في البلاد، والتي توظف لنقد الصين المعاصرة، وهي صحافة تتجه مباشرة إلى مواضيع الفساد والجشع المالي، والطبقية الاجتماعية، وحتى التمييز داخل المجتمع الواحد، فتأتي هذه الرواية لتفجر الأوضاع من القلب، كاشفة كل العيوب، وناقدة للواقع التعيس الذي يعيش فيه الصينيون.

ويظهر العالم الذي يتحدث عنه يو هوا شبيها بالعالم الحقيقي، فهو عالم غير عادل، تسوده المشاحنات وعدم الثبات، رغم أن الراوي التقى بأصدقائه الموتى، وتحدث إليهم، إلا أنه في كل مرة يحاول أن يجمّل هذا العالم، بإبراز سوداوية العالم الحقيقي، ووصف طبيعة المكان، الذي صار ملاذا لهؤلاء كي يتطارحوا الأفكار ويحاولوا استرجاع صور حياتهم، والوقوف على أخطائهم، وإضفاء القليل من الضحك على الحوارات الدائرة بين المتوفين.

الرواية تبدو بسيطة في فكرتها، لكن ترابط الأحداث معقد وغريب، هي رواية يسيطر عليها العقل الذي يريد تفسير فكرة الموت، التي تبدو غير واضحة وغير مقنعة لكل الشخصيات. الموت فكرة عشوائية لا تفسير لها، رغم المحاولات التي يقوم بها الكثير من الدارسين والباحثين في كل أعمالهم.

هذه القصص قد تبدو عادية، ولكنها تمثل واقعا متزايد الأهمية للصين الحديثة، مثل الجشع الوحشي، والتكالب على المال في مجتمع استهلاكي، مع تزايد النزعة الوصولية والأشخاص المتسلقين على حساب مصالح غيرهم، كما أن الرواية تسلط الضوء على بعض المواقف الإنسانية، التي تحدّ من وتيرة الأحداث وتخفف من وطأة الكراهية، فنرى قيم التآزر والتعاون بين أفراد المجتمع، رغم الصراعات اليومية، كما نلاحظ في العديد من المواطن رفض البعض الركوع لإملاءات الحكومة وتسلطها.

تحتوي “اليوم السابع” على علامات كثيرة من الكوميديا السوداء، فهي تضم الكثير من المواقف المضحكة، ورغم مسحة السواد البادية على العمل ككل، فإن المؤلف نجح في رسم ملامح شخصياته بدقة متناهية، واستطاع أن يقدّم رواية تترجم الواقع الصيني بصدق، رغم طابعها الخرافي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى