فلسطين أسامة العَيَسة بين الاحتلال والسلطة

عمر شبانة

بعد روايته «مجانين بيت لحم»، التي كتب في تقديمه لها «لم أكتب إلا السّطر الأوّل في ملحمة مجانين فلسطين والعرب على أرض بيت لحم، على أرض الدهيشة»!، تساءلتُ إن كان قد ظلّ في بيت لحم، ومخيّم الدهيشة، أو في فلسطين كلها، شيء لم يكتب أسامة العَيَسة؟ لكنّني فوجئت اخيراً بأن كتابه الجديد، يقول المزيد والجديد الكثير (ثمانية عشر نصّاً قصصيّاً، دار نشر الفسائل – القدس، 2017).
الكتاب الجديد مجموعة نصوص سرديّة، بطابع حكائي، يصعب تجنيسها أدبيّاً، ولا أميل إلى تصنيفها قصصاً قصيرة أو طويلة، فهي نمط جديد في السرد، في نكهة تمزج الكتابة بأسلوب التحقيق الصحافي، مع الكتابة بأسلوب «السيرة الشعبية»، و «التاريخ الشفوي»، يُنتج أدباً «شعبيّاً» قريباً من روح الشارع، بما فيه من فكاهة وسخرية تبلغ حدود «المَسْخرة» تجاه الحياة اليوميّة، وتجاه المواقف التاريخية. أقرب إلى «نصّ مفتوح»، ليس في المعنى الفنيّ فقط، بل الموضوعاتيّ أساسًا. ينفتح على حكايات متناسلة ومترابطة ومتداخلة، ويتّسع لـ «روايات» متصارعة على امتلاك «الحقيقة»، حقيقة الأرض والتاريخ والبشر في فلسطين.
يشتغل العيسة في هذه النصوص، في منطقة ما بين الأدبيّ والتاريخيّ والسياسيّ، ليقدّم من خلالها رؤيته لكثير من عناصر «رواية» ما يجري في أرض فلسطين التاريخية، أعني «الرواية» بوجهَيها المتصارعَين؛ الفلسطيني والإسرائيليّ. أي روايتين متناقضتين للحدث الواحد، ولـ «الحقيقة» نفسها، ما يعتبره كل من الطرفين حقيقة مطلقة. وفي هذا الإطار يواصل الكاتب «حفريّاته» في المكان والزمان الفلسطينيّين، فضلاً عن الحفر في جغرافيا النفس البشريّة، عربية ويهوديّة.

الواقعيّ والفانتازيّ
نصوص الكتاب السردية حافلة بما هو جدير بالقراءة النقديّة المعمّقة، لجهة التعرّف على مدى «واقعيّة» هذا الواقع الذي نقرأ حكاياته هنا، ففي هذه النصوص مزج للواقعيّ بالفانتازيّ، والجدّ بالهَزل، وغوص في التاريخ والميثولوجيا والأنثروبولوجيا، والموروث والمأثور، في مسعى إلى توصيل رسالته، رسالة تحمل رؤيته وتحليله وموقفه حيال ما يجري تناوله.
في نص يحمل عنوان الكتاب «رسول الإله إلى الحبيبة»، وهو النص الأطول، الكثير من القصص المتداخلة، حيث يصلح النص أن يكون مشروع رواية مستقلة، تجمع الواقعي والميثولوجيّ، هنا الدكتور (الإسرائيليّ) إيال عالم الآثار والمستشرق الهاوي، يعيش في «حي رحافيا العَلمانيّ»، حيث نمط الحياة الأوروبية الألمانية، ويقوم بالتنقيب في صحراء النقب، لدراسة الأمثال والتقاليد المرتبطة بالحياة والموت لدى «الجيران» (العرب)، نقرأ حواراته مع صديقه (أوري) الصحافيّ في صحيفة هآرتس، كاتب المقالات الناقدة لما يدعوه «الدولة الدمويّة»، إيال درس اللغة العربية ليخدم جهاز الشاباك والموساد، والتحق بقسم الآثار، وضمّن دراسته صراع الفلسطينيين واليهود على المقامات المشتركة، ظهر له في الإحصاءات حجم اهتمام الإسرائيليين بالقبور، وأنّ «ثلث اليهود الذين يزورون قبور الأولياء هم من الأكاديميين، وأن خمسة عشر في المئة من الزوّار هم من العلمانيّين…»، فيقول إيال لأوري «حوّلت جماعتنا مقامات إسلاميّة ومسيحيّة ودرزيّة إلى مقامات يهودية… في بلاد يختلط فيها السياسيّ الدنيويّ بالدّينيّ المقدّس… أوري حذّر ممّا سمّاه الاستئثار اليهوديّ بالمقامات… يمكن أن تكون مقدّسة لدى الجميع، وتبقى في حدود التديّن الشعبي، ولكن في هذه الأرض المقدّسة، لا توجد إلّا قوّة الحديد والنار».
وضمن استطراداته، يتطرق المؤلف إلى أن «نسوة العهد القديم… يُثرن الفتنة»، وعن «التأثير البالغ للميثولوجيا الدينية في شؤون الحاضر»، وإعادة تدوير الحجارة البيزنطية، والتطهير العرقي لأصحاب الأرض، وصولاً إلى الشيخ نوران الذي يُعتقد بأنه عاش 1500 سنة، وفجأة يكتشف إيال قرب مقام الشيخ نوران تمثال «دولفين يلتقط سمكة»، يعود للفترة الرومانية، ويعتقد بأن الدولفين هو خنزير البحر، وربما هو إله البحر بوسيدون عاشق أمفيتريت. ثمّ يجري ربط هذا بدولفين اكتشفته الضفادع البشرية لكتائب القسام (حماس) في بحر غزة، وتبين أنه دولفين إسرائيلي مزوّد بكاميرات قبالة سواحل غزة.
على هذا النحو، يجري ربط الواقع السياسيّ بالأسطورة، أو بالمتخيّل، في جُلّ نصوص الكتاب. ولعلّه، وعلى نحو ما، ومن دون أن يكون تقليدًا، يذكّر بصنيع وعوالم وشخوص إميل حبيبي في «المتشائل»، أو التركي عزيز نيسين في «زوبك»، وربّما التشيكيّ ياروسلاف هافيل في «الجندي الطيب شفيك». فالكثير من شخوصه وعوالمه تقارب تلك العوالم والشخوص، لكنّها مع العيسة تكتسب خصوصيّتها من خصوصيّة المكان والزمان واللغة والتفاصيل الصغيرة التي لا تتكرّر.
من خلال حكاية «ضبعو»، التي يرويها المؤلّف بوصفه الراوي في قصة «بين القُدسين» معلناً «أنا الصحافيّ أسامة العيسة…»، نتعرّف ليس فقط على حركة السير في القدس الغربية والقدس الشرقية، والإرباك الذي أحدثه هذا «البهلول» المدعو ضبعو بانتقاله من رام الله (أراضي السلطة) إلى القدس (تحت الاحتلال)، ويمارس هوايته في تنظيم السير، بل على تفاصيل حياة شرائح من أبناء المدينتين.
ومثل هذه الشخصية، ذات السلوكات العفويّة لكن المُربِكة، الكثير من شخصيات القصص في الكتاب. ففي قصة «مجنون بورقيبة»، نلتقي شخصية السلطان إبراهيم الساخر وهو يعيد «تمثيل» زيارة المجاهد الأكبر إلى مخيم الدهيشة واحتفاء أهالي المخيم به، قبل زيارته إلى أريحا وخطابه فيها والاحتجاجات عليه، بسبب موقفه الذي اعتُبر آنذاك «سياسة واقعية تجاه إسرائيل، كاسراً بذلك مبكراً إحدى المحرّمات العربية…»، والجدل الذي أثاره بين مؤيّد لـ «واقعيّته» ورافض لها.

المضحك المبكي
يتنقل العيسة بين الأزمنة والأمكنة، فمن زمن الاحتلال والفدائيّين و «الأرملة البيضاء»، الجاسوسة العاهرة، إلى زمن سلطة أوسلو ومنظمات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، و «مشاريع ثقافة البياض»، وحكاية عن شهوة الانتقام، و «شحّاذ جبع الغامض» الذي ليس سوى جاسوس للاحتلال في صورة متسوّل غريب الأطوار، والسخرية من بعض المعتقدات الخرافية، والبؤس والشقاء في ظل الاحتلال كما في ظل الحكم الأردني للضفة الغربية، واعتقالات الأطفال، وسوى ذلك الكثير ممّا يفتح أبواب السخرية والنقد اللاذع.
الوقفة الأخيرة هي مع قصة «عصافير المهد»، لما تنطوي عليه من توظيف لحادثة صغيرة، قد تكون واقعية – حقيقيّة أو متخيّلة، لكنّها شديدة التعبير في رمزيّتها وأبعادها ودلالاتها، أو تمكن أن تحدث في دولة ليست سوى صورة ممسوخة للدولة. وتبدأ القصة بالتحضيرات الجارية لاستقبال «البابا» في مدينة بيت لحم، ومن بين الاستعدادات إقامة «المنصة» التي سيجلس فيها، الأمر الذي يستدعي قطع شجرة، وتشريد «عصافير المهد»، وليست هذه سوى ذريعة لتعرية «الحدث» ومُلحقاته، بدءاً من استقبال عرفات للبابا وتقبيل يده، ثم قيام الزعيم الشيوعي سليمان النجّاب بتقبيل يد البابا بإشارة من عرفات، والأهمّ هو ما بعد الاحتفال، انتباه البعض إلى قطع الشجرة وتشريد العصافير، واللجان التي يتم تشكيلها لإعادة «توطين» العصافير اللاجئة، وذلك كله في لغة شديدة السخرية من سلوك السلطة، إلى رئيس السلطة نفسه، فالبابا «ضيف الرئيس» في اللافتات، وإذ يجري تعديلها يصبح البابا ضيفاً على «شعب الرئيس»، وهكذا إلى أن تنتهي «الحكاية» بصلاة لأجل الشجرة بحضور حاخام مستوطنة. هو المضحك المبكي إذن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى