الخشت يسقط أقنعة ديكارت العقلانية

محمد الحمامصي
هل فلسفة ديكارت فلسفة متشابهة تحتمل أكثر من معنى، أم أنها فلسفة محكمة الدلالة؟ هل هي فلسفة تنطوي على مواقف غير واضحة ومتميزة، أم فلسفة تعطي نموذجا للفكر الواضح والمتميز؟ هل هي فلسفة عقلانية أم لاهوتية؟ هل العقلانية أمر محسوم فيها، أم أن العقلانية مجرد قناع أخفى وراءه ديكارت اتجاهاته اللاهوتية؟ هل هي فلسفة تتخذ نقطة البدء من الإنسان أم من الله، من الخالص أم من الضمان الإلهي؟ وأخيرا هل هي فلسفة تعتمد على معيار الوضوح والتمييز في معرفة الحق من الباطل أم تعتمد على الصدق الإلهي؟

هذه التساؤلات محور دراسة د. محمد عثمان الخشت “أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة.

قدم الخشت قراءة من سياق مختلف ومن منظور ينشد الوصول إلى ساعة العقل الأخيرة التي تجعل الأيديولوجية اللاهوتية تواجه نفسها أخيرا وهي عارية من كل أساليبها المراوغة، حيث سعى للصعود من الشرح النصي إلى التأويل الفلسفي، عبر قراءة المذهب الديكارتي في بنائه الداخلي والوقوف على لحظات المنهج لتفحص مدى عقلانيته ولا عقلانيته، وتحليل الفضاء الموجود بين تلك اللحظات أو ورائها، للوصول إلى المعنى الباطني للمذهب والذي يتخفى وراء اللفظ الظاهري.

وقد رأى د. الخشت أن فلسفة ديكارت فلسفة تشتمل على نصوص متشابهة، موضحا مفهوم الاشتباه بأنه مفهوم فلسفي أصيل “يدل على تعددية المعنى ومن ثم يحدث اشتباه في المعنى مما ينشأ عنه الالتباس في فهم المراد، وإن كنت أميل إلى استخدام لفظ الاشتباه كسمة لما هو متعدد المعنى ويحتمل أكثر من تفسير ومن ثم هو متشابه لا سيما وأن المتشابه اصلاح قرآني أصيل استخدمه الأصوليون. ويبدو أن المعنى الفلسفي للمتشابه لا يختلف كثيرا عن المعنى الذي أعطاه بعض الأصوليون له في علم أصول الفقه، فالمتشابه هو غير المحكم الدلالة”.

وأوضح أن ما يسترعي النظر في فلسفة ديكارت أن منطق منهجه يبدو منطقا عقلانيا على ما يظهر سواء من القواعد التي يضعها في كتيبه “قواعد لتدبير العقل” أو من القواعد الأربعة التي يضعها لمنهجه في كتابه “مقال عن المنهج”: فهي قواعد عقلانية، أما حين ينظر المرء في موقفه من الوحي المسيحي وعقائد الكنيسة وسلطة رجالها يكتشف أن المنطق الذي يحكمه منطق غير عقلاني حيث نجد المفاهيم اللاهوتية حاضرة في بنية المذهب وتكوينه، لدرجة ربما يمكن القول معها إن هذا الموقف محكوم بالمنطق اللاهوتي أكثر من كونه محكوم بالمنطق العقلاني، ولو طبقنا منهج ديكارت على مذهبه لاكتشفنا أن مذهبه ملئ بالتقريرات اللاهوتية.

وأشار إلى إن ديكارت إذ يضع أصول الممارسة العقلانية في القاعدة الأولى من قواعد منهجه فإنه سرعان ما يضع أصول الممارسة اللاعقلانية عندما يضع فوق هذه القاعدة وغيرها من القواعد قاعدة عصمة الوحي المسيحي، ولقد أدى هذا إلى منافاة منهجه العقلاني الذي نادى فيه بطرح الأفكار الصادرة عن السلطات أيا كانت وجعل معيار البداهة معيار الحق والحقيقة.

وقال “أدى الاشتباه في الفكر الديني عند ديكارت إلى إعادة النظر في موقفه الفلسفي بشكل عام، مما أدى إلى بيان أن منطق منهج ديكارت يبدو عقلانيا على ما يظهر من القواعد التي يضعها لمنهجه فهي قواعد عقلانية، أما حين ينظر المرء في مذهبه يتبين أن ديكارت قد ناقض قواعد منهجه.

ولفت الخشت إلى أن هيمنة التصورات اللاهوتية الميتافيزيقية على طبيعيات ديكارت أدت إلى وقوعه في أخطاء منها ما ذهب إليه من القول بخطأ جاليليو في نظريته عن سقوط الأجسام، لأنه لم يعرف المبادئ الحقة للطبيعة، يعني المبادئ اللاهوتية الميتافيزيقية ومنها مبدأ ثبات الإله المطلق، وفي الواقع أن الخطأ ليس خطأ جاليليو وإنما خطأ ديكارت لأنه أقحم مبدأ ميتافيزيقيا قبليا على مسألة طبيعية بحتة.

وأضاف أنه مما يثير الاشتباه في فلسفة ديكارت أنه يؤكد على مطلقية القدرة الإلهية في قلب الحقائق ولا شك أن هذا يعارض القول بالثبات والضرورة التي يقوم عليها كل قانون علمي، لكن ديكارت يعود ليضفي على القوانين الرياضية والطبيعية نوعا من الضرورية التي يضمنها الإله بثبات إرادته وتنزهها عن التغيير، فإذا كانت قدرته لا متناهية ومطلقة الحرية، فإنه عندما يخلق العالم وفق قوانين ضرورية، فإنه يلتزم بما أوجده من حقائق وقوانين، ولا يشرع لاحقا في تغييرها، هكذا يكرس ديكارت الاعتقاد في قدرة الله المطلقة وحريته التامة، وفي نفسه يكرس اليقين العلمي القائم على ثبات القوانين والحقائق.

ورأى الخشت أن نظرية ديكارت عن الخلق المستمر ما هي إلا عقيدة سفر التكوين عن استمرار الله في الخلق والحفظ وهي لب العقائد المسيحية، حيث إن قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين هي أن الله خلق الكون ولم يتركه لذاته ولشأنه كما يزعم بعض الفلاسفة إن قوته لازالت عاملة في الكون خالقة ومسيرة وحافظة. وهنا يظهر الاتفاق التام بين نظرية ديكارت وعقيدة الكتاب المقدس، كما يظهر الخلاف الجذري بين نظرية ديكارت ونظرية أرسطو الذي يتحث عن العلة الأولى، وكأنه لا اتصال بين الله والخليقة إلا عن طريق سلسلة من العلل والمعلولات من جهة أن الله بالنسبة للكون هو المحرك الأول الذي لا يتحرك ولا شأن له بالكون بعد ذلك لا بالعلم ولا بالعناية والحفظ، فالله عند أرسطو ليس فكرا وتعقلا، وهو لا يعقل ولا يفكر إلا في ذاته، لأنها أكمل وأشرف الذوات ولذا لا يفكر في العالم الناقص المتغير إنه عقل وعاقل ومعقول، ومن ثم فإن حياته توصف بأنها تفكير في تفكير.

وأكد “هنا تسقط أقنعة ديكارت العقلانية التي تقنع بها في مذهبه، حيث الحضور الطاغي للمفاهيم اللاهوتية مثل الضمان الإلهي، والشيطان الماكر ونظرية الخلق المستمر، والحضور اللاهوتي البارز في الطبيعيات والرياضيات وثنائية النفس والبدن، والموقف التسليمي المطلق بالوحي، وعدم مناقشة العقائد والإذعان لرجال الكنيسة، والتأكيد الدائم من قبله أنه ما من حقيقة فلسفية في مذهبه يمكن أن تكون متنافية مع حقيقة العقائد المسيحية المنزلة، وهذه هي الفكرة الشائعة عن العلاقة ببن الوحي والعقل في التوماوية، إلى غير ذلك”.

(ميدل ايست اونلاين)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى