في ضيافة الرسام عبد الرزاق الساحلي

فاروق يوسف

لا يزال هناك أثر من عبد الرزاق الساحلي في الحمامات بتونس. مدينته الساحلية الصغيرة التي لم يغادرها عام 2009 في وداع أخير إلا بعد أن نقل الجزء الأكبر من روحها إلى سطوح لوحاته. كانت كونه فصار حارس علاماتها التي اكتسيت بسبب خيال يده الكثير من الغموض. لقد اجتهد في وفائه ليكون واحداً من حرفييها، لكنه في الوقت نفسه وهبها بتواضع شيئاً من دهشة عيني الطفل الذي يسكنه.
كانت رسومه بمثابة آيات شكر موجهة إلى أسلافه الذين قادتني علاماتهم إلى بيته. لا يزال مرسمه كما تركه. تحرص زوجته الفرنسية على ألا يتغير أي شيء فيه خشية أن يعود إلى الرسم. كرمه كان باذخاً. هناك عدد من المحترفات الملحقة ببيته، كان قد استضاف فيها عدداً من الرسامين العرب والأجانب ممن أعجب بتجاربهم الفنية.
أدخل إلى مرسمه فأتوهّم أن كل شيء في مكانه، كما تركه الرسام لذي سيعود مبتسماً في أية لحظة ليرحب بي. سيكون علي أن أعتذر منه. «لقد تأخرت في حضوري» فالساحلي المولود في الحمامات عام 1941 كان واحداً من الأسباب التي دعتني إلى تفكيك رؤيتي إلى العالم واعتبارها الوسيلة المثلى لفهم المصير. ما من صورة مكتملة. الصورة العميقة لا تصل إلا عبر شظاياها.
العلامات هي أثرنا الرمزي الذي يلخص حياة لا تزال ممكنة. وهو ما تعلمه الساحلي منذ طفولة عينيه. هناك شيء منا نتركه لكي يكون شاهداً على مرورنا وهناك شيء نحمله معنا لكي يكون بمثابة جرس، تعيدنا دقاته إلى السطر الأول الذي لم نكتبه. يستعيد الساحلي روح المكان وهو يعرف أنه لم يغادر السوق التي اهتدى من خلال أصواتها إلى سحر الأشكال. يرسم الساحلي بالحواس كلها. كنت أمد يدي بين لحظة وأخرى لأتأكد من أن ما أراه هو أصباغ ليس إلا.
أن ترى رسوم عبد الرزاق الساحلي في المكان التي أنتجت فيه هو غير أن تراها معلقة على جدار في قاعة فنية أو في بيت أحد مقتني أعمال الرسام الذي عاش جل سنوات شبابه في باريس ثم عاد في تسعينات القرن الماضي إلى بلدته الصغيرة ليبني بيته ومرسمه محميين بمسافة خضراء تضمن له القدرة على النظر من بعد إلى حياته السابقة التي امتزجت فيها دربته على استعمال حواسه المباشرة بفكرته عن البعد التجريدي الذي تنطوي عليه العلامات التي صنعت عالم خياله.
في المرسم تكشف تقنيات الساحلي عن رغبة صانعها في أن لا ترى رموزه مرتين، على رغم أنه يجد نفسه لحظة الرسم مضطراً إلى أن يمد يده إليها، من غير أن يتعامل معها باعتبارها مادة جاهزة. لقد رأيت عشرات لوحات، هي ما أنتجه الساحلي في سنواته الأخيرة ولم يعرضه ولم تكن هناك لوحة تشبه أخرى. كان حضور الرسام واضحاً. لكن ذلك الحضور لم يتحقق إلا من خلال سحر العلاقات المتشنجة التي يقيمها بين مفرداته التي وإن قيل إنه استعارها من الحياة المباشرة، غير أنها قد اكتسبت بين يديه خبرة الافتراس.
يهاجمنا الساحلي بمفرداته النافرة ويقطع علينا سبل إعادتها إلى مصادرها. هذا رسام يضع الرسم في مواجهة الواقع. إنه ينشئ حياة رمزية لمفرداته، لينقيها من أصوات السوق التي علقت بها. تعيش تلك المفردات على سطوح لوحاته جدلاً موسيقياً، هو انعكاس لرغبة الرسام في الارتقاء بالعادي والمهمل والمتداول سوقياً إلى مستوى النادر والنفيس والمدهش الذي يثري الواقع بسعادته من غير أن ينفصل عنه.
أقوى ما في عبد الرزاق الساحلي يكمن في ما يوحي به من أنه خلف وراءه عالماً مكتملاً. مَن يرغب في إكمال مسيرة ذلك الرسام لن يبدأ من الصفر. لقد فكك الساحلي عالماً، كان بمثابة ملعب للطفولة وأعاد تركيبه بطريقة لا تذكر بماضيه. كان الساحلي ذكياً في مكره حين سعى إلى استدراج كل شيء من أجل أن ينفتح على لا شيء يقطع من خلاله صلته بما كان عليه. الكائن الذي لم ينفصل عن الواقع كان يقدم ولاءه للرسم على فرحته بهبات ذلك الواقع. رسوم الساحلي تحيي الواقع، لكن بشروط هوائها المقبل من جهة مجهولة.
خرجت من مرسم الساحلي محملاً بأدعيته التي وهبتني ثقة وصفاء الخارجين من المعابد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى