فضاء التنبؤ وإنتاج الدلالة في «باب النظرة» للإماراتي أحمد العسم

لولوة المنصوري

«أخطر ما على الشاعر هو التنبؤ في قصيدته بحدث مظلم، وقصيدة مريم هي التي بترت ساقي. كم هو هائل هذا البتر يا مريم» أحمد العسم 26/12/2016.
بعد مرور السنوات على ذلك البتر العميق، انكشفت الإشارة الممزوجة بالحسرة، ذلك التنبؤ غير القصدي أنتج الحدث المؤلم ثم نتجت القصيدة. وهكذا هو التعاقب الدائري.
لنتأمل هذه المنظومة الكونية والبعد الفيزيائي في جملة الشاعر، فكل شيء يعاد مهما بلغت درجة فقده في الحياة، يعاد خلقه من جديد ووفق بنية وتركيبة ونشاط جديدة، فمن الساق الميتة وُلدت حكمة الهم والألم وفلسفة الفقد، من حضرة البتر استعادت القصيدة نجاتها، وولدت كينونة أخرى، كينونة الرائي المتأمل، الأكثر غوصاً في عمق العالم وجماليات أسراره. هكذا يلتقي الزمن الماضي بالمستقبل في بوابة حتمية لا مفر منها، اسمها (الآن) اسمها القصيدة.
إن موت جزء منا إشارة إلى ميلاد جزء أكبر منه يكفل استمرارية الخلق والإبداع واستئناف الولادات في عالم الكلمة وعالم الطبيعة، ينبلج من حيث دُفن الجزء الميت، سواءً كان الدفن محسوساً أو أثيرياً، تنبت اليقظة الحية على موضع الدفن ذاك، تنبت تجليات القدرة بما تفيضه من نور وبيان على الجزء الحي. ذلك التنبؤ الشعري المتخيّل في قصيدة «مريم» الذي أحدث البتر الواقعي للشاعر العسم، خرجت على إثر وقعه المحزن قصائد تشكلت على رسلها، تخفق في ظلال الغرف البيضاء وتتجاوز الأفكار الشاحبة، تتخذ من الليل وعداً وانتظاراً ومكابدة، ريثما يلتقط القلب سره الغامض المكابر والغائر في غرائب الإشارات القدرية، وريثما يولد النص متخففاً من ضجيج الفراغ، فكانت قصائد «باب النظرة» نأيا نحو المناخات البعيدة المشحونة بأمل الرغبة واستيعاب مستجدات القدر دونما قلق أو تردد أو تذمر:
نصف النص
على عاتقكَ
يُرمى
يوم آخر لم تعت ده
وأحياناً
يطول فيك اليوم تمشي ببطء
قدمك
الملقى على عاتقها الصبر
وعليك أن تركض
وعليك أن تقبّل يد الباب

كنجم بعيد صالح للعيش والتعافي والعبادة، نجم يحرّك الحوار الشعري في الكون، ينبّه الغياب والأزمنة المفقودة، هكذا ينظر الشاعر الإماراتي أحمد العسم لقصيدة النثر، كملاذ وحيد للتطهر والشفاء والصدق، وكمنفذ رحب للكبرياء ونخبوية القلب وقداسة الكلمة الشعرية، كطريقة وحيدة لعشق الحياة والجمال واختزال مرايا النخل والجبل والبحر، يتمنى من القصيدة أن تكون حرّة متجددة تحفر في الذات وعلاقتها بالعالم، مشرّعة من باب النظرة على البراحات الماورائية، يكتب كما المرائين أشعارهم في غيب آخر، كأنك تسمع دبيب الحياة في الكلمات اليابسة، بخياله المجنح القادر على أن يسير بك على حواف النورالخفيف، يملك لغة بحرية متفردة لمخاطبة ما هو إنساني ليحيله عشقاً للبلد والأم والحبيبة والرّفاق. متيم بأناس نزلوا أخيراً عن ظهر الأرض ودُفنت أصواتهم، تركوه في مرارة اللجة، أسيرَ الغرف البيضاء والانتظار المُر، ولا سبيل إلى التحرر إلا بالشرود في القصيدة، حين تأتي الروح زاهدة صافية، لتتفقد كل شيء دخل إلى نص الحلم، نص المرض، بأقل الخسائر الممكنة وبهواجس الندم:
كاد الحجر أن يشج
رأس الوسواس
إلا أن الله أراد
أن يكبر الحجر
وتكبر في فمي المدينة
في نص العسم ستظن نفسك قريباً من جوهر المعنى إلا أنك في الحقيقة داخل سفر خاص نحو تبتلات الدلالة المتلاحقة والمتوالية، وفق مدونة شعرية محايثة للروح ودهشة الظل ولذة العزلة، كلها تمثلات رمزية خاصة تصب في بؤرة القلق وكبرياء المعنى المجازي، وفلسفة المرض وتجلياته عبر شعرية اللامعنى. «باب النظرة» قصائد وجودية تنفتح على جملة التعارضات والمفارقات العبثية الجمالية المؤلمة التي من خلالها حاول شاعرنا النحت في داخله والحفر في أعماق بعيدة، في الطين الأول، في الذاكرة الرمزية للغرق القديم، غرق الجد، غرق البحر في الحجر، في الحنين إلى مواسم ركضت بالرزق حتى آخر غيمة وآخر حجر في الجبل، يستمهلها الشاعر متوسلاً القبض على لحظة أخيرة سحرية، سيميائية حية، تولد من بؤرة ذوبان النفس في القلق والفقد والبتر العميق، ذلك البتر الوجودي الذي انتفضت على إثره توجهات الشاعر الفلسفية وارتبكت في فمه الحقيقة بالشك، المعنى باللا معنى، المنطق بالعبثيات، فصار الإنبات الشعري بين نصف موت ونصف حياة ونصف باب للنظرة :
كنتُ ميتاً
وما حييت
رأيتُ الشارع
ينزلق من حذائي
وقدمي تركل الأرض
القصيدة في «باب النظرة» سفر في أسطورة المرض ولذة متاهاته، كلّ مستقبل فيه يشدّ إلى ماضيه، وكل اندفاعة إلى الأمام انعطافة إلى الوراء؛ خطوة تتقدم خطوة تثني، في النص كما في الفهم، المرض يتقدم ثم لا يلبث أن ينزوي خائفاً من روح الشاعر المتمردة والمتحدية بالإيمان العميق، كل حوادث الدهر، تلك الغواية التأملية التي تبدأ من أحضانها غواية الكتابة، غواية التلقي، غواية القداسة، قداسة المرض، قداسة البتر، قداسة ألم الحرف وهمه، فبدت القصائد مثل حزن صوفي أخضر، نادر، تهيم ككوخ في النور عائم على الماء، تتيه في الصبر والتجربة المرضية وشهية الأسئلة الميتافيزيقية :
لم أجد أخاً للصبر
إلا قلبي
بشكل لافت
أبتسم له بصورة مجروحة
لا أهزّ صورتي في المرآة
ولكنها هي التي
تهز الصورة
يقول العسم في إحدى حواراته: «فتحت عينيّ على الحياة في بيت يطل على البحر، ولي مع ساحل رأس الخيمة حكايا معتقة منذ طفولتي، ومن بينها ذكرى مؤلمة، وهي غرق جدي، إلا أنني أتذكر أن الصيادين حين أخرجوه، وكان فيه بقايا نفس أوصى أبي بالبحر، كأنه غير مسؤول عن موته، وقال ها هنا رزقكم لا تتركوه، فحتى لغة الموت في تلك اللحظة كانت ذات دلالة مختلفة، وحفرت في ذهني بشكل خاص». لذا صار الشاعر العسم منتجاً للدلالة في قصائده، يثير حساسية البداية الممزوجة بمنطق النهاية، بثنائية غرق الجذور «غرق جد الشاعر في ساحل المحارة» وموت الساق (بتر ساق الشاعر) وتفاصيل فقد الأصدقاء وشتاتهم، كل ذلك كان بشارة ولادة النص وتشكّل الحُب واحتدام محكياته والعلاقات الصورية التي تألقت ذاكرةً وأثرت الضخ الشعري وفضاء الدلالة.
وبلغة تزيد من انشداد المتلقي وتفاعله مع النص، لغة انسيابية حرّة، لغة الطين القديم والالتفاف بوجع الأصدقاء والخبز الواحد وبدثار الساحل ودفء المقهى الفقير على الشاطئ، لغة منحازة إلى البسطاء وهوامش الرصيف وضجة الصيادين في الشمس وملح الصباح وشاي قلق البلدة الصغيرة من الفقد المتواصل:
أحمد سالمين صديق
لا يظهر إلا مرة
وهذه فرصتي
كي أُهشم معه
زجاج العالم
«باب النظرة» مجموعة شعرية صدرت عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، تتألف من 24 نصاً شعرياً وتقع المجموعة في 131 صفحة من القطع المتوسط. ويذكر بأن الشاعر أحمد العسم يكتب بالفصيحة والعامية، ويعد واحداً من أهم الأصوات الشعرية الحاضرة على الساحة الإماراتية، وتتميز تجربته بميلها إلى المغايرة من حيث سعيه إلى تجاوز القواعد القارة، وكتابة نص لا يتقيد بالحدود التقليدية التي تفصل بين الأجناس الأدبية، كما أنه من أبرز الناشطين الثقافيين، فهو يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ورئيس الهيئة الإدارية للاتحاد في رأس الخيمة، وعضو مؤسس لعدد من المؤسسات والجماعات الثقافية مثل مسرح رأس الخيمة، ومنتديات وطن، وجماعة الشحاتين وسواها.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى