«أين غزوتنا التالية» لمايكل مور؟… الولايات المتحدة وانتظار سقوط جدار برلين

محمد عبد الرحيم

«هذا الجدار كنا نظنه لن يسقط أبداً، لكنه الآن أصبح ذكرى». عبارة دالة من العبارات الختامية لفيلم Where to invade Next (أين تغزو المرّة المقبلة) لمايكل مور. وهو يسير مع صديقه القديم بجوار جدار برلين وذكراه الأليمة. وكعادة مور الذي ينتهج السخرية ليكشف عن مدى المأساة، حالماً بأن تستعيد الولايات المتحدة قيمها المفقودة، التي تأسست من خلالها، حتى لا تنحدر إلى المزيد من الانحطاط، أو تنتهي كسابقاتها من الإمبراطوريات، وتصبح في ذمة التاريخ. ينطلق مور في شكل محارب عجوز كدون كيخوته أمريكي، لكنه واع بما يحدث حوله، محاولاً أن يسلب من المجتمعات رهينة غزوه، أفكارها الجليلة التي تحيا من خلالها في شكل أكثر آدمية وقيمة إنسانية. لم ينس مور قيمة الفرد، أساس الدولة والمجتمع، هذه القيمة التي تنتهكها وتتآمر عليها الآن حكومات الولايات المتحدة برفقة رجال الأعمال وأصحاب الشركات عابرة القارات، وقد أصبح المواطن الأمريكي فريسة لفساد وتسلط هؤلاء، غائباً عن وعيه، ظاناً أنه يعيش في ظل أكبر دولة في العالم.

الغزو الجديد

على رجال البنتاغون التنحي الآن عن مهامهم، وترك الفرصة لمايكل مور ليتولى عنهم عمليات الغزو، وقد تركهم زمناً يخوضون المعارك الموهومة، دون تحقيق أي انتصارات تُذكر، اللهم إلا المزيد من الخيبات والانحطاط الأخلاقي، كانت غزواتهم المزعومة بهدف سرقة البلاد الأخرى، دون التورع عن إثارة الفتن والحروب، لتكن (سرقة) وليفعلها الرجل الآن، الذي لا يحمل سوى راية الولايات المتحدة، والذي ينتوي زرعها في البلاد التي سيغزوها، وما الهدف إلا الحصول على أفكار هذه البلاد، التي أصبحت تفوق بلاده رقياً وإنسانية.

أمة بائسة

من خلال البلاد التي وصلها مايكل مور، يؤكد دوماً كم أصبح يعيش في أمة بائسة، تناست بعضا من مبادئها، فهوت في ما تحياه الآن. هذه بعض من الأفكار التي اكتشف مور أن هذه الدول أخذتها من مواد الدستور الأمريكي. إلا أن مواد الدستاتير وحدها لا تمتلك القدرة على الحياة، في ظل بيئة كارهة ومُعادية للآخر، على العكس مما تقوله في وسائل إعلامها ليل نهار. هناك حالة من الإيمان تحياها الدول التي ذهب إليها الرجل، إيمان قوامه الحياة المشتركة، والاعتقاد بحق الآخر ــ أياً كان ــ في الحياة. ربما كانت تفكر الولايات المتحدة هكذا منذ زمن طويل، لكنها الآن تحتقر الآخر، وهو ما انعكس على طبيعة المجتمع الأمريكي نفسه في النهاية.

أفكار إنسانية

ولنستعرض نماذج الدول التي توجه إليها مايكل مور، وحاول غزوها وسرقة أفكارها، والعودة بها إلى بلاده، تعويضاً عن الخسائر الفادحة طوال سنوات غزو الجنرالات، وعقد مقارنة بينها وبين حال المجتمع الأمريكي.. البداية من إيطاليا، التي يحاول أهلها الاستمتاع بالحياة في المقام الأول، حيث ساعات العمل المحددة، والعطلات مدفوعة الأجر كالعديد من دول العالم، وفرنسا والنظام الغذائي في مدارس الأطفال الحكومية، فهم لا يأكلون ما لا يعرفون. ولينتقل الرجل إلى النظام التعليمي في فنلندا، حيث لا اختبارات تقليدية موحدة، كما أن الفروض المنزلية تكاد تنعدم، والأهم هو تعلم الطلاب الأنشطة الإبداعية التي تطور قدراتهم، كالموسيقى، الشعر، الحياكة، النجارة، والمسرح. ويبدو التعليم هو الأمر الأكثر أهمية في غزوات مور، فيتعرض إلى التعليم الجامعي، والمحنة التي يُعانيها طلاب الولايات المتحدة، فلا أحد من مواطني سلوفينيا مُثقل بالديون، نتيجة حصوله على قروض تكفل له التعليم الجامعي، كما في الولايات المتحدة، مما جعل الأمريكيون أنفسهم يستكملون دراستهم في سلوفينيا، حيث جميع المراحل التعليمية مجانية هناك. وهناك تجربة السجن في النرويج، وكأنه أشبه بمجمّع سكني، فالسياسة العقابية هناك تكمن في تقييد الحرية، دون تعذيب السجين أو الانتقاص من إنسانيته. هناك لا توجد عقوبة الإعدام، ويتعرّض مور إلى حالة أب فقد ابنه نتيجة عملية قتل جماعي، قام بها أحد المتشددين فكرياً، وبسؤال الأب «هل تود قتله»، يرد الرجل «لا»، فأقصى عقوبة هي السجن 21 عاما، ولا يريد أن يتورط ويخسر إنسانيته كرد فعل على قاتل ابنه. كذلك إتاحة تعاطي المخدرات في البرتغال ــ دون الاتجار ــ مما قلل من معدل التعاطي وانتشار المخدرات بشكل ملحوظ. ثم يدور التساؤل حول قدرة الأمريكيين على اعترافهم بذنبهم العنصري، وعمليات الإبادة المُمنهجة للزنوج، والتفرقة بينهم في تولي الوظائف، أو تلفيق التهم إليهم، باعتبارهم الشياطين الذين يتوجب التخلص منهم.
ويعقد مور المقارنة بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الألماني، الذي يعيش بعقدة الذنب، ويحاول التكفير عنها دوماً، حتى لا تتكرر المأساة مرّة أخرى. ويرى الرجل في الأخير مدى الإعلاء من دور المرأة، كما في أيسلندا، التي أصبحت من أوائل الدول التي تحكمها امرأة. وهناك عدد كبير من النساء في أي مؤسسة حكومية أو خاصة داخلها، كما استطعن إنقاذ البلاد من الانهيار الوشيك بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. ثم تونس وثورتها، ودور النساء هناك، حيث استطعن بالتظاهرات السلمية إجبار البرلمان على الاعتراف بحقوقهن ووضعها في الدستور، فتراجع عن قراره بعد الاحتجاجات، لتصبح المادة السادسة والأربعين في الدستور التونسي خاصة بحقوق النساء.

ما بين الثقافي والسياسي

ما يلفت النظر في الفيلم أن القضايا التي يُناقشها وإن بدت حالتها السياسية، إلا أنها قضايا اجتماعية ومنهج ثقافي بالأساس، هناك الكثير من التضحيات والتجارب والاسترشاد بتجارب الدول الأخرى، حتى وصلت هذه البلاد إلى ما هي عليه الآن. هناك رؤية إنسانية تحاول أن تكون هي الإطار العام للمجتمع، ولا أدل من ذلك إلا رأي البعض في الولايات المتحدة، التي أصبحت تخلط م بين نفسها كدولة وبين العالم، وكأنها هي العالم، وما عداها مخلوقات وكيانات زائدة عن الحاجة، ولابد وأن تكون في خدمتها.
بالطبع لم تكن هذه البلاد التي وضعها مايكل مور تحت المجهر خالية من المشكلات أو العثرات الاجتماعية والاقتصادية، وبعض من الفساد السياسي، لكنها أفضل مقارنة ببلاده، كما أنه يعترف بأن لكل بلد مشكلاته وتبعات مواقفه وتكوينه الثقافي والحضاري، لكنه أتى ليحصل على أفضل ما في تجارب هذه البلاد، يحصل على «الأزهار دون أشواكها»، وهو في سبيل ذلك يأمل أن يتغيّر الوضع القائم في بلاده، الفساد والبيروقراطية والتوحش الرأسمالي، رغم ظنه أنه كابوس لن ينتهي، وربما يصبح كجدار برلين .. «كنا نظنه لن يسقط أبداً، لكنه الآن أصبح ذكرى».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى