محمد برادة يروي الواقع المغربي الزئبقي

نبيل سليمان

تطّرد المواجهة الروائية للتحديات الجديدة والمتجددة، مع اختمار التجربة التي لا تركن إلى ما أنجزت، بل تفيد منه وهي تسعى إلى منجز جديد، من دون أن يعني ذلك أنها لا ترتبك أو تكبو أو تقصر من رواية إلى رواية. وفي ما عدا هذا التحزر، تؤكد تجربة محمد برادة صحة ما تقدم، منذ عهده بالقصة القصيرة، ابتداءً بـ «المعطف البالي» (1957)، إلى مجموعة «سلخ الجلد» (1979)، لتأتي من ثمّ ولادة الروائي عام 1987 في «لعبة النسيان»، وصولاً إلى روايته الجديدة «موت مختلف» (منشورات الفنك – 2016). وتواجه هذه الرواية تحديات وعي الأنا – النحن، ووعي الآخر – العالم، مثلما تواجه تحديات تسريد التأرخة والفكر.
قبل المضي في ذلك، قد يحسن النظر في ما هو وعي الرواية لذاتها، والذي عبر عن نفسه منذ العتبة التي صدّر بها الكاتب للرواية، وفيها من مفردات اللعبة: المشاهد القصيرة والاحتفاء باللقاءات العابرة والانطباعات الهاربة، والانتباه للعالم. ومن بعد، يتولى السارد اللعبة معلناً عن حضوره بضمير النحن، وكما يليق بالرواية الكلاسيكية، كأن يقول: «ما يستوقفنا في هذا السياق» أو «لو أردنا أن ندفع الخواطر إلى الأبعد» أو «لندفع مجرى الخيال لننفذ إلى ما وراء الستار» أو «إذا غضضنا الطرف عن بعض التفاصيل» أو «وما قد نستعرضه لا يعدو أن يكون محكيات متداخلة مع أحداث ومواقف تجعل علاقة منير بتلك الفترة من حياته أشبه بمشاهد تخييلية اختمرت في ذاكرته».
ويتابع السارد أن كثرة الأحداث وتشابكها وانتماءها إلى فضاءات عديدة، تجعل التاريخ العام أقرب ما يكون إلى عوالم متخيلة، مثله مثل التاريخ الشخصي. يختم منير الرواية بتكثيفها فيما يدعي أنه حكى بعضاً مما عاشه منذ التقاعد في «سردية لولبية». وذلك هو طموح هذه الرواية إلى ما تكونه، مما سنحاول أن نتبيّن ما تحقق منه.

تحديات الوعي
تشتبك في هذه الرواية الأنا المفردة (منير) بالنحن المغربية بالآخر الفرنسي، فالعالم. ويتجلى ذلك منذ الفصل الأول «زيارة مسقط الرأس». تبدأ الرواية بيوم منير الأول في التقاعد بعد سبعة وأربعين عاماً من وصوله إلى فرنسا، فتغمره رغبة كاسحة في أن يسرد رحلته بطريقة ما، وليست الرواية غير ذلك.
بعد زيارته الى مسقط الرأس «دبدو»، يشعر منير بأنه وزع بين ألق الغرب وما هي «دبدو» عليه من البساطة والعتاقة والبعد من دينامية المعرفة والخيال. وكان منير قد عاد إلى الوطن منتشياً بتوهماته بأنه يزرع الجينات الحضارية في أحشاء دبدو، لكنه أحس أنه غريب عنها، على رغم أنه غادرها في العشرين. وفي وعي الذات ووعي الآخر، يحاول منير استعادة شريط حياته وهو في ضيافة الآخر. وتبدأ الاسترجاعات (الفلاشباكات) بالتدفق في الفصل الثاني «في بلاد الأنوار»، حيث ينتقل السرد من الأنا في الفصل الأول إلى الهو في هذا الفصل. ومنذ هذا الفصل، تتعدّد محاولات تنويع اللعبة الفنية، فتتوالى الرسائل واليوميات ومقطعات مما «قال الراوي» أو «يقول الراوي»، وإذا لم يكن من ضرورة لتقطيع هذا القول، فهو في جريانه سرد متواصل تقطعه فقرة «قال منير» لمرة واحدة.
وكما هي الحال في روايات ما درجت تسميته بـ «شرق – غرب»، تكون المرأة هي الحامل السردي. فبعد أيامه في دبدو، يتابع منير عودته الأولى إلى الوطن عبر أيام في الدار البيضاء، بحيث يلتقي بالأستاذة العزباء (ف.م) التي تدعوه إلى شقتها، ويذهله أنها تجسر على اختيار رجل. ومن ثم تجيب مطولاً عن رسالة منه بعد عودته إلى باريس، فتحضه على الكتابة ليحتمي من الملالة وشكوك الوجود. وهي سبق أن حاولت الكتابة وأخفقت، غير أنها تتوقع أن ثقافة منير في الإبداع والفلسفة ستسنده، وتخمن أنه يحمل بذوراً شعرية أو قصصية أو روائية، وما لذلك من دور في الرواية، إلا أنه يعزز فحولة البطل وفردانيته، هو الذي كانت أولى نسائه في بداية عهده الباريسي جوسلين السويسرية الماركسية.
أما ذروة ذلك العهد فكانت مع كاترين جيرو، التي انتسج الحب بينهما في أجواء ثورة الشباب الفرنسي عام 1968. وفي ضيعة كوليت البورجوازية المهووسة بـ «الحرياتية»، تقوم الخلوة التي يمضي إليها منير وكاترين مع آخرين، ليمضي السارد إلى علاقة كوليت بحبيبها الهندي راجي، وإلى عهد كوليت في الهند، والحب والجنس في الشرق الهندي.
قبل زواج منير وكاترين وبعده، تظلّ الشراعة الأكبر على وعي الآخر، ومن ذلك إنجابهما بدر، فالعلاقة المثلية بين كاترين ولويز، فانفصال كاترين ومنير نتيجة تلك العلاقة. ويتصل بتلك الشراعة ما سيلي لمنير من علاقات بعد الطلاق، وفي شيخوخته.

تحديات التسريد
يبدأ منير باستحضار تاريخ (دبدو) المجيد منذ زيارته لها. ويغلب أن تأتي المعلومة عارية، كما في الحديث بحسرة عن إمارة دبدو المستقلة (1430 – 1550) وعن ازدهارها إثر هجرة يهود إشبيلية إليها، حاملين معهم حضارة الأندلس. ويذكّر حضور اليهود المتواتر في «موت مختلف» بتواتره في الرواية العربية في السنوات الأخيرة، كما في روايات علي المقري والحبيب السائح وإبراهيم الجبين، وهو ما يغمز منه بعضهم كإغواء للترجمة.
وفي رواية برادة يلي حديث منير عن مقبرتي اليهود المغلقتين إثر رحيلهم إلى إسرائيل أو الخارج، وهم من وفدوا منذ قرون و»تعايشوا مع المغاربة» لكأنهم لم يصبحوا مغاربة بعد قرون، لكنّ منير يتحدث من بعد عنهم كمغاربة. وفي رسالة إلى صديقه ألبير، يسوق منير «مداخلة» في الدورة الحضارية، وفي تجربة عبدالكريم الخطابي، قبل أن يبلغ الزلزال الفرنسي في أيار (مايو) 1968.
وعلى العكس مما هو متوقع، يكون لفرنسا النصيب الأكبر من التأرخة، بحيث يتعزز تحدي تسريد المعلومة والوثائقية في عملية كتابة التاريخ السياسي الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وعبر ذلك تأتي أيضاً محاولة كتابة للتاريخ الثقافي. فمن ظاهرة بريجيت باردو وفرانسواز ساغان ورومان كاري إلى قيادة ميتران الحزب الاشتراكي وفرنسا ومن تلاه من رؤساء فرنسا وصولاً إلى هولاند.
وهنا يبرز تحدٍّ آخر لفن الرواية بعامة، هو محاولة الرواية أن تكتب ما يسمى بالتاريخ الجاري – الساخن، أي الراهن. فرواية برادة تواصل التأريخ إلى عشية نشرها في نهاية 2016. ولا يغيب هذا التحدي عن وعي الرواية لذاتها. فالسارد يشبه منير بالروائي المهموم أولاً بتحديد حاضر الرواية، ويقرر أن الحاضر زئبقي. وفي الفصل الأخير (كابوس مقيم) يعين الكابوس بالمذابح في العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا وفلسطين، ما يتواتر في فرنسا أيضاً. ومن اللافت أن يكتفي السارد أو منير بهذا العبور في سطور بالزلزلة العربية التي ابتدأت في 2011.
يشتبك الفكري بالتاريخي في تحدي التسريد، كما يستقل عنه. وربما يجد ذلك علّته في دراسة منير الفلسفة وعمله بتدريسها، وفي حالات التأمل والتفلسف التي أخذت تلفه إثر عودته من المغرب. لكنّ الأمر يلتبس بالاستعراض الثقافي، كأن تحاصر منير وسط الشارع مقولة سبينوزا في الفرح، وكيف يشرحها لطلابه، أو أن يحشد الأفلام التي شاهدها، والكتب التي قرأها من مؤلفات دولوز ورشاد روني وتوماس بيكيتي وبرنارد ستيكلير. وقد أبدعت الرواية في رسم كل ذلك كعلامات فارقة في تكوين شخصية بطلها، منذ نشأته إلى شيخوخته التي يعزم على أن يتعلم كيف يمجّدها، أسوة ببطل ماركيز في روايته «غانياتي…»، وحيث يعزم على أن يحقق حلمه الميترو بوليسي في تشييد دبدو الجديدة التي ستتسع لعشاق العالم ومضطَهديه.
في نهاية الرواية، يلتقي منير وابنه بدر في حوارية تنادي المسرح، وتبدو كأنها حوار أفكار في الهوية وسواها، يتضاءل أمامها الشخصي بين أب وابنه. وفي هذه النهاية، يتحدد اختيار عنوان الرواية في تطلع منير إلى «موت مختلف». ومن أجل ذلك، يقرر توزيع إقامته بين دبدو وباريس، ويعزم على إقامة فندق في دبدو، بينما يقلب «كوجيتو» ديكارت ليصير: «أنا أموت فإذن أنا موجود». وفي ذلك يقوم التحدي الروحي والفكري الأكبر الذي يصهر ما واجهت رواية «موت مختلف» في بوتقة الإبداع الروائي، حيث امتياز محمد برادة روائياً وناقداً أيضاً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى