ياسمين غاتا … في رحلة روائية إلى جحيم رواندا

أنطوان جوكي

لم تحتَج الكاتبة الفرنسية (من أصول لبنانية) ياسمين غاتا إلى أكثر من رواية «ليلُ الخطّاطين» التي صدرت عام 2004 كي تفرض نفسها في الساحة الأدبية الفرنسية. رواية رائعة استتبعتها بأربع روايات لا تقل أهمية عنها، آخرها نصٌّ صاعق بعنوان «لطالما خفتُ من الليل» صدر حديثاً عن دار «روبير لافون» الباريسية، ويغوص بنا في قلب المجازر التي ارتُكبت في رواندا عام 1994، من أجل الشهادة على أهوالها، ولكن أيضاً من أجل اقتراح سبيلٍ لمداواة جروحها البليغة التي لم تلتئم بعد.
أحداث الرواية تدور إذاً في رواندا في شكلٍ رئيس، ولكن أيضاً في باريس حيث نتعرّف إلى كاتبة تدعى سوزان وتنظّم محترفات للكتابة في المدارس، وإلى فتى رواندي يدعى أرسين أفلت بأعجوبة من المجازر التي أدمت وطنه بعدما اختبر ما يجب أن لا يختبره أي إنسان، قبل أن تأويه منظمة غير حكومية ثم يتبنّاه زوجان باريسيان.
تبدأ الرواية مع وصول سوزان إلى مدرسة أرسين حيث تطلب في حصّتها الأولى من جميع تلاميذ صفّه اختيار غرضٍ تحفظه عائلة كل واحد منهم منذ زمنٍ طويل وإحضاره إلى المدرسة. والهدف؟ دفعهم من خلال الغرض المستحضر إلى التعبير عن حياتهم الشخصية ومُعاشِهم العائلي. وسيلة ناجعة حين ندرك أن بعض الأشياء تبقى مشحونة بذكريات رقيقة أو مؤلمة، وبالتالي تملك القدرة على استحضار صورٍ أو روائح إلى أذهاننا وعلى إشعال الحنين داخلنا ما أن نلمسها أو يقع نظرنا عليها.
لكن ما تجهله سوزان هو أن طلبها هذا سيضع أرسين في حالة ارتباك وضيق لكونه لم يعد يملك من ماضيه سوى حقيبة سفرٍ قديمة شكّلت ملجأه وسريره أثناء عملية فراره من قريته في رواندا. حقيبة سيُحضِرها هذا الفتى إلى المدرسة، وتتمكّن سوزان بواسطتها من إقناعه بسرد مساره لها وكشف أسرار طفولته وما اختبره خلالها. وتدريجياً، يتحوّل هذا الجهد إلى وسيلة لأرسين لتعزيم «خوفه من الليل» وإعادة حبك خيوط هويته الممزّقة وتقبّل والديه بالتبنّي وحياته الجديدة.
ولا عجب في نجاح سوزان في مهمّتها، فخلال سرد أرسين قصّته يتبيّن لنا أن هذه الحقيبة تشكّل رابطه الوحيد مع طفولته المقتلعة من أرضها، مع أحلامٍ بيضاء ووجوهٍ عزيزة على قلبه فتك بها الحقد الأعمى والمجازر التي نتجت منه، وبالتالي مع الحب الذي عرفه وشدّ أزره أثناء فراره. حبّه لأخيه الصغير وأخته الصغرى، لأمّه الحنونة على رغم ثرثرتها المتواصلة، لأبيه الصامت أبداً لكن الكلّي الحضور، وخصوصاً لجدّته التي لطالما اعتنت به، قبل أن توقظه يوماً عند الفجر وتضع تلك الحقيبة في يده وتجبره على الفرار من المنزل قبل بدء المجزرة التي قضى فيها جميع أفراد عائلته وأبناء قريته.
ولأن تلك الحقيبة رافقت أرسين أثناء رحلة فراره إلى المجهول وأنقذته من شرّ القتلة والوحوش الكاسرة، باختبائه داخلها كلّما شعر بالخطر، نراها تحفظ أيضاً الصراخ الذي سمعه والجثث والدماء التي شاهدها، وبالتالي صوراً وأصواتٍ يتعذّر تصريفها لحفرها جروحاً عميقة داخله.
وبموازاة سردية تيه الفتى أرسين في غابات رواندا، التي تحضر بصيغة المخاطَب، ما يعزز وقعها على نفوسنا، نقرأ داخل الرواية سردية أخرى تضطلع سوزان بها ونتعرّف فيها إلى طفولتها التي عرفت فيها، هي أيضاً، آلاماً لم تُشفَ منها بعد، وإن كانت هذه الآلام ناتجة من جروحٍ أقل عمقاً من جروح أرسين. سردية بصيغة المجهول تسمح لها بإنجاز طقسِ تذكُّرٍ خاص بها تتقفّى فيه آثار والدها الذي توفي بشكلٍ مبكِر وهي طفلة، من أجل وداعٍ أخير، لأن أحداً لم يقل لها، إثر وفاته، بأنه رحل نهائياً عن هذه الدنيا.
باختصار، تجربتان مختلفتان للموت داخل رواية جميلة ومؤثّرة تعالج من أقرب مسافة ممكنة مواضيع مختلفة ومتشابكة، كالفقدان والمنفى وضياع نقاط الاستدلال وخصوصاً البربرية التي يستسلم بعضنا لها ويملك بعضنا الآخر القوة لمواجهتها والتغلّب عليها، وتتجلى بقوة في مجازر رواندا التي لا معادل لوحشيتها في تاريخنا المعاصر (أكثر من 800 ألف قتيل بظرف أربعة أشهر فقط). مجازر تقارب الكاتبة أهوالها بكلماتٍ صائبة من خلال قصة هروب الفتى أرسين من قريته، مستعينةً بأسلوبٍ بسيط وقاطِع يقوم على جُملٍ قصيرة وصاعقة تعكس في الوقت نفسه صعوبة الكتابة والتعبير عن أحداثٍ من هذا النوع.
من هنا قيمة هذه الرواية التي تكمن أولاً في لغتها الآسرة والمشدودة على ذاتها التي تسمح لياسمين بحلِّ خيط الماضي وفتح نافذة على المستقبل ببراعة ورقّة بالغتين، كما تكمن في إنارتها محنة اللاجئين الراهنة عبر تصويره عن قرب معاناة مَن اقتُلعوا من أرضهم بسبب الحروب وعمليات الإبادة المنهجية.
يبقى أن نشير إلى أن سوداوية القصة التي تسردها الكاتبة في هذه الرواية لا تمنعها من شحن نصّها بالأمل. فمن خلال مسار شخصيتَيها الرئيسيتين، تجعلنا نصدّق بإمكانية تجاوُزِ ألم الفقدان والشفاء من الصدمات النفسية التي تخلّفها الحروب والمجازر. فصحيح أن مثل هذه الجروح لا تلتئم أبداً كلياً، لكن نزعة الحياة تحضنا دوماً على السير إلى الأمام، من دون أن يعني ذلك نسيان ماضينا المؤلم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى