شعراء سابقون برتبة كهنة يفسدون واقع الشعر المصري

خالد حماد

يدخل الناقد المصري شريف رزق في مواجهة كبرى ضد الهجمة غير المبررة على قصيدة النثر المصرية من قبل الوجوه القديمة والراسخة للنقد والإبداع الشعريَّيْن في مصر، آخر تلك المواجهات انتهت بحرمان العديد من الأصوات الشعرية الشابة من التواجد في “ملتقى الشعر العربي”، الذي انعقدت فعالياته في القاهرة بأصوات إبداعية ونقدية، كما يشير رزق إلى أنها وجوه قديمة تحارب كل ما هو جديد.

مواجهة مع الكهنة

عن الشّعراء المصريّين الذين خرجوا على سلطة آباء الحداثة، وتمرّدوا على الإرث الشّعريّ والبلاغة اللفظيّة، متخطّين سلطة الكتابة، ومتّجهين نحو المعادلات الشّعريّة اليوميّة، ونحو قصيدة التّفاصيل، والقصيدة الواقعيّة، يؤكد رزق أن ثمة تحوُّلات كبيرة في مسار الشِّعريَّة العربيَّة منذ بدايات التِّسعينات من القرن العشرين، فصلت شعر هذه المرحلة عن تيَّار الشِعريَّة العربيَّة المركزيّ، الذي هيمن منذ أواخر خمسينات القرن الماضي على مشهد القصيد النَّثريّ العربيّ، عبر تجارب حلَّقت في آفاق شعريَّة مغايرة مع الشِّعريَّات الفَرنسيَّة والشِّعريَّات الأنكلو أميركيَّة.

وكرَّست هذه الآفاق في خطاب الشِّعريَّة العربيَّة الجديدة، ومنذ تسعينات القرن العشرين انفصل مسار شعريَّة القصيد النَّثريّ العربيّ عن مساراته السَّابقة، وألغى الذَّاكرة السَّابقة، وانخرط في جماليَّات اليوميِّ والشَّخصيِّ والمعيشيِّ، وانفتح على جماليَّات السَّرد، وتبنَّى الأداء الشِّفاهيّ، وجنح إلى البساطة، وتحرَّر أداؤه اللغويّ من الأُطر السَّابقة. وقد شارك في صياغة ملامح هذه المرحلة شعراء من أجيال مختلفة، فمن جيل سبعينات القرن الماضي يذكر الناقد كلا من محمد صالح وأحمد طه وأمجد ريَّان، كما يستحضر من الثَّمانينات علي منصور وعاطف عبدالعزيز، ومن التِّسعينات إيمان مرسال وعلاء خالد وأسامة الدّناصوري وأحمد يماني ومحمد متولي وعماد أبوصالح وكريم عبدالسَّلام.

ويشير رزق إلى أن هذه الجماليَّات بدت، على نحو أصغر، في عدَّة مواضع من الخريطة الشِّعريَّة العربيَّة، ولكنَّها بدت على نحو أبرز في فضاء المشهد المصريِّ، الذي بدا أنَّه المشهد المركزيّ في خريطة القصيد النَّثريّ الجديدة، على الرَّغم من أنَّ هذه الشِّعريَّة كانت مسبوقة بأشكال مختلفة من التَّجارب التي تبدأ بتجربة محمَّد الماغوط، ثم رياض الصَّالح الحسين، ووديع سعادة، وبسَّام حجَّار، وسركون بولص، وهيَ تجارب، على أهميّتها الشِّعريَّة، هُمِّشتْ، في حضور تجارب أدونيس وأنسي الحاج، وأُشير إلى أنَّه أُعيد الاعتبار لريادات هذه التَّجارب مع صعود تيَّاراتها على أيدي التَّجارب الجديدة، التي كانت أكثر تحرُّرًا، ومن التَّجارب الأسبق لا تزال تجربة وديع سعادة حاضرةً بنبرةٍ شديدة الإنسانيَّة والخصوصيَّة.
ثمة مواجهة يعيشها هذا التَّيَّار الجديد الذي يراه رزق في مركز الدَّائرة حاليّا، فعلى الرَّغم من الحضور المُتزايد لهذا التَّيَّار في الشِّعريَّة الرَّاهنة، كما يقول ضيفنا، فإنَّ المؤسَّسات الثَّقافيَّة لا تزال مُنفصلةً عن الحراك الشِّعريِّ الحقيقيِّ، ولهذا يظلُّ هذا التيار فاعلا بقوَّة خارج المؤسَّسات وخاصة الرسمية، وقد ظهر هذا بوضوح في مؤتمر الشِّعر الدّولي الرَّابع الذي عُقد بالمجلس الأعلى للثَّقافة، حيث هيمن عليه وعيُ شعراء متأخِّرين عن الواقع الشِّعريِّ الحقيقيِّ بعقود، ولا يُمثِّلون الواقع الشِّعريّ، ويستبدّون بالسُّلطة الشِّعريَّة، كما يستبدُّ الطُّغاة، ويُمارسون الإقصاء ذاته، ويؤكد الناقد أنه لا حلَّ إلاَّ في ثورة حقيقيَّة تُطيح بهؤلاء الكهنة.

نتطرق مع ضيفنا إلى الحديث عن سبب تنكر شعراء قصيدة النثر للأجيال السابقة لهم، ليقول رزق “هم لا يرفضون أشكالا شعرية، بل يرفضون السِّياسة الشعرية التي تُدار بالرّجعيّين كهنة المعبد الشِّعريِّ القديم وحواريّيهم، فالعلاقة بين هؤلاء الشُّعراء الجدد وأجهزة الدَّولة الثَّقافيَّة في انهيار مُتزايد، فهم ينشرون بمعزلٍ عن مؤسَّسات الثَّقافة الرَّسميَّة، ويُقيمون مؤتمراتهم بشكل مُستقلٍّ، ويسافرون للمشاركة في مؤتمرات شعريَّة خارجيَّة بمعزلٍ عن إطار المؤسَّسة الثَّقافيَّة الحاكمة، وخارج سلطة الدَّولة الثَّقافيَّة، ويتقدَّمون لجوائز غير جوائز الدَّولة، وهذا الوضع يعكس وضعًا عامًّا يستقلُّ المبدعون فيه عن سلطة الدَّولة، كما يعكس من ناحيةٍ أخرى انهيار العلاقة بين الشَّعب والدَّولة بشكل مُتسارع. إنَّه انهيارٌ شعريِّ، كما أنَّه انهيارٌ سياسيّ”.
القصيدة المنقذة

عن سؤالنا “إلى أي مدى نجحت قصيدة النَّثر المصريَّة في أن تكون في المشهد الإبداعيّ، خاصَّة أنَّ العديد من الكتابات تُشير إلى أن قصيدة النَّثر جاءت من لبنان؟” يجيبنا رزق “قصيدة النَّثر اللبنانيَّة أصبحت ذكرى جميلة، منذ ربع قرن على الأقل، وأُشير إلى أنَّ الطَّليعة الشِّعريَّة قد خرجت على سلطة قصيدة النَّثر اللبنانيَّة مرات عدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. واليوم هناك في قوس شعريّ كبير، مُتعدِّد التَّجلِّيات الشِّعريَّة، يعمل بانفصالٍ تام عن المرجعيَّات السَّابقة، ذات الأصول الغربيَّة بالأساس”.

نسأل الناقد هنا، هل ما زال الشِّعر ديوان العرب؟ وإن كانت مدارس الشِّعر الحديث المُتعدِّدة قد استطاعت أن تُعبِّر عن الوجدان، كما كانت تُعبِّر عنه في مدارس الاتباع؟ ليجيبنا بأن مقولة “الشِّعر ديوان العرب”، الَّتي نُسبت لعمر بن الخطَّاب، ووردت في كتاب الأغاني، كانت تعبِّر عن وضْع الشَّاعر في العصور القديمة، حيث كان الشَّاعر الجهاز الإعلاميّ لقبيلته ولأمّته، وقد ظل هذا المفهوم مُستقرًّا حتَّى عصر الإحيائيِّين والكلاسيكييِّن، حدث هذا منذ حرب البسوس، كما يقول، حتى ما سُمِّيَ بـ”شعر الثَّورة”، هو مفهوم خرج عليه شعراء ذاتيُّون منذ القِدم.

يتابع ضيفنا “لقد تعاظم الحضور الإنسانيّ مع حركة الرُّومانسيَّة، حيث أصبحت الذَّات مركز العالم، ومع حركات التَّجريب الشِّعري الحداثيّ أصبح الشِّعر ديوان نفسِه، وجنح القصيد إلى شعريَّة الشِّعر، وانفصل الشِّعر عن الشِّعار، وأصبحنا نرى بوضوح الشُّعراء الذين يرتبط حضورهم الشِّعريّ بالمواقف السِّياسيَّة، ويخلطون الرِّسالة الشِّعريَّة بالرِّسالة السِّياسيَّة، ويُغلِّبون الشِّعار على الشِّعر، وأرى أنَّ الشِّعر الذي على شاكلة ‘إذا الشَّعب يومًا أراد الحياة..’، لا يصلح سوى للأناشيد المدرسيَّة”.

يرفض شريف رزق اعتبار قصيدة النَّثر نوعًا أدبيًّا، بدلاً من اعتبارها نوعًا شعريا، رغم تضمُّنها شعريَّة الشِّعر بجانب سرديَّة القصِّ، وانفتاحها على أدب السِّيرة الذَّاتيَّة، وجمعها بين آليَّات فنون مختلفة، حيث يؤكد أن قصيدة النَّثر هيَ نوع شعريٌّ، ولن تكون غير هذا، إذ هو ضدّ نبوءة سوزان برنار التي رأت فيها أنَّ هذا النَّوع الشِّعريَّ سيذوب في الأنواع الأدبيَّة المجاورة.

ويرى أنَّ القيمة الشِّعريَّة في خطاب قصيدة النَّثر هيَ القيمة المُهيمنة على شتَّى الآليَّات التي تنفتح عليها، في تفاعلها مع شتَّى الفنون، القوليَّة والبَصَريَّة. فالقول إنها نوعٌ أدبيٌّ وليست نوعا شعريا، يهدف إلى سحب شعريّتها وإخراجها من دائرة الشِّعر، ويكرر رزق ما قاله من قبل “إنَّ قصيدة النَّثر أنقذتْ الشِّعريَّة العربيَّة في الوقت المُناسب، وإنَّها النَّوع الشِّعريّ الأكثر حريَّة وتعبيرًا عن العصر”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى