ما الذي فعله أحمد الجيدة في رواية ” تغريبة القبطي الأخير”؟!

خاص ( الجسرة )

لا تنشغل رواية ” تغريبة القبطي الأخير وهي باكورة الإنتاج الروائي للشاعر يوسف وهيب، بما هو محيط بالشخوص فقط مكانيًا، رغم اعتنائها واستماتة معظم الشخوص في قلب التراب المصري، والرواية يشي نسيجها أنها تنهل من منبع لا ينضب، خاصة في بنيتها الروائية ، حيث اعتمد الروائي، تقنية الرسائل غير المكتملة أحيانا و المكتملة حيناً، ما بين شخوص قد تربطهم روابط حميمية، أو ربما لا يعرفهم شخوص الرواية الآخرون، وما يظنه البعض- تسرُّعًا- أنه جاء عرضًا في الحكي أو لملأ فراغات ما، هو من صميم التشابك و التداخل اللذين تعيشهما وتتحرك بينهما شخصية “عقل القبطي”، الذي يبدو كبطل للعمل الروائي أو هو محط أنظار ومراسلات معظم شخوص الرواية، ورغم المرور العابر لشخصيات مثل ” أحمد خليل” وغيره، إلا أن وجودها حيوي بالنسبة لمخيلة عقل القبطي الراوي ، أو للقارئ لعمل كهذا تسمه التداخلات و التشابكات في لحظة واحدة، كما الحياة بالضبط، فليس هنا ما نعيشه من وضوح تام أو طريق متوهم مستقيم زمانيا أو مكانيًا، وانظر كيف تشابكت وتداخلت شخصيتا ملاك القبطي و أحمد خليل الجيدة القطري في لحمة إنسانية طبيعية لمن صفت أرواحهم وقلوبهم بعيدًا عن تلوث السياسة أو ادعاءات المتثاقفين:
“كلما تذكر ” عقل” ما كان يفعله أحمد الجيدة، يضحك ويبكي في آن واحد، يا إلهي أهناك بشر بهذا الحضور والفطنة، رغم ما قد يبدون عليه من مظهر أو ما نتوهمه نحن عنهم؟!
يمضى كأنه لا يرى أحدًا، أو يرى ما يريده فقط، وأيضًا لا يسمع إلا ما يحلو له، ثلاثة من البشر فقط في مصر استطاعوا إنطاقه، أحدهما يشاكسه دوما فيجعله يكشف بلاويه أمام جمع من الناس، يستمتع “ملاك” دومًا بـ “جرّ شـَكـَل” أحمد خليل، وأحمد يتصرف من أرضية محبة لملاك، لا تعرف إن كان مصدرها طيبة أحمد، أم إحساسه بخوف ملاك عليه الدائم و مصاحبته في فسحته عبر مقاهي و شوارع وسط القاهرة، لا طعم للشيشة بدون وجود ملاك معه، و لا معنى للبنات المتسكعات في التوفيقية أو زهرة البستان إلا حين يناغشه ملاك أيضًا، منذ بدايات التسعينيات يتردد مع شقيقه إبراهيم الجيدة على مقاهي المثقفين، الغريب أنك حين تسأله: من تحب؟!، كان يفاجئك بإجابة لا تردد فيها: عاطف صدقي.. رجل طيب، وبعده عشق أحمد نظيف، ولا تدري لأي سبب لم يكن يحب أن يسمع أسماء رؤساء وزراء آخرين من خارج مصر، ربما لأن الأسرة معظمها هواها مصري، أو ربما أن أخبار مصر تسيطر على العالم كله حتى في لحظات ضعفها، وحين يأتي ذكر أي من الشخصيات الحاكمة بالسعودية أو قطر أو الكويت، لا يعلق بشيء، ويشيح بوجهه ناطرًا يده في وجه من يحدثه، حتى إنه كان دائما يصف أحدهم بالـ “خايس “، وحين سألنا إبراهيم: يعنى ايه خايس؟، قال: يقصد ماعنده شيء من الرجولة، بالمصري كده، يعنى بلا رجولة!
نضحك جميعنا، وأحمد يكتفي بتصويب النظر إلينا، وكأن عينيه تتساءلان: لعلكم جماعة من العبايط والبلهاء علام تضحكون؟!
أحمد لا يتكلم كثيرا، لكن حضوره في الجلسات، يترك أثرًا لا يخطئه قلب يدرك معادن البشر الحقيقيين، كلما سار في شارع تأملته النساء، إحداهن قالت؛ أنه به سرٌ أو ممسوس بملائكة، إذا اقترب من بعضهن ينظر إليهن فقط، ثم فجأة يطوف حولهن، و يتركهن و يمضي، يحوطه ملاك بعناية كأنه ابنه البكري رغم تقاربهما في السن، وحين تسأل أحمد لماذا تحب ملاك ضاحكا، يقول: خوي إبراهيم يحبه وأنا أحب إبراهيم، أبو جاسم و .. و.. ويعدد أسماء أبناء وبنات إبراهيم، و يختتم وصلته بقوله: ربنا يخليهم إياه أخوي إبراهيم
مات ملاك فجأة، وحزن أحمد كثيرًا، حتى أنه انقطع سنوات عن المجيء الى وسط البلد، وكلما حادثه أحدهم عن ملاك، قال: مسكين مات لوحده، مات قبل مانعمل له العملية، الله يرحم روحه، بس أخوه صموئيل طيب، وانت كمان طيب، وفي أول مجيء له بعد وفاة ملاك، قاد لهم صموئيل السيارة، لكن أحمد لا ينسى ملاك، و لا ينسى مشاكساته، يذهب إلى مقاهي التوفيقية، ويتركنا جالسين، ويمضي مسرعًا وراء إحداهن، لا يتكلم، يسير بموازاتها فقط، وينظر الى وجهها، ثم يتركها عائدًا، وكأنه كان يتحقق من امرأة يعرفها، أو نموذج مرسوم في خياله منذ الأزل، أحمد مسكون بامرأة، لكن لا تعجبه ولا أي امرأة، لا في القاهرة أو في الدوحة أو بيروت ولا حتى في لندن! لا يقل شيئا أيضًا، ولا يقدم على أي فعل، سوى أنه ينظر في وجوههن و يمضي، و إذا كن منتقبات يطوف حولهن عدة مرات، ثم ينصرف، مشيحا بوجهه، ولا يعلق بشيء سوى: أنا ما عندي ، انا بطني خايس مافيش تخليص!، وما ان يحاول أحدهم الاشتباك معه ظنا منه أنه يعاكس نساءه المكفنات بأكفان سوداء، يقفز ملاك مثل أسد، ليحيطه بذراعيه و يخلصه من هؤلاء الغرباء الذين لم يفهموا براءته”
هكذا يبدو أحمد خليل مثل طيف عابر يمر بالبشر، وكأنه لا يعتني بهم، لكنه في قرارة نفسه يعتني بمن يهتم به و يحسه كأخ بل أكثر مثل ملاك القبطي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى