ماذا يفعل أورويل في ضاحية بيروت الجنوبية؟

محمد برادة

يـلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لـغـتُـها المتعددة المستويات واستـيـحاؤها فئاتٍ بشرية مـهمشة في بيـروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُـتـرفة الزاعقة. وشـكل بـناء الرواية يـصـلـُنا من خلال أربـعٍ وأربـعين فـقرة أقـرب ما تكون إلى شكل سـيناريو سينمائي، يـعتمـد على مشاهـد تـصاحبُ الفـعلَ والوصف وتسـتـعمل الحوار بلـغة الكلام المُـتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنـةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجـعل السـرد أفـقـيـاً يـتـمدّد لـيلتقط تفاصيل الحياة لـفـئاتٍ تعيش في الهامش، وتـتـعـيّش من خـدمةِ مَـنْ لـهم إمكانات الإنفاق على ما يُـعـدّل الـمزاج ويـؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانيـة، لا تـقوم الرواية على حِـبْكة عـمودية تـنطوي على مفاجآت، وإنـما هي بـنـيـة مـفــتوحة تـتـوخى الإطلالة على شـرائح من هذه الفـئات المهمشة التي تـعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مـثل بيـع المياه الصالحة للشـرب، أو تـأجـيـر الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البـيـرة الحلال… والشخوص الأساسية التي تـؤثث هذا الفضاء في أطـراف الضاحية، هي من فـئـة شـبانٍ يعملون في مثل هذه المـهـن الخدماتية التي لا تـتوافـر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحــتـل حـمودي موقعاً بارزاً في الـنـصّ، لأنه يعيش مع أمـه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتـركت جـرحاً غـائـراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسـه الـشابّة … لكن مجموعة مـتنـفــذة أرغمته على تـرك عمله في توزيع المياه الصالحة للشـرب، فـاضـطـرّ إلى الالـتـحاق بـدائرة الحاجّ رضــا صاحب مقهى تُـؤجّـر الأراكيل وتقدم خدمات أخـرى غـيـر مـنظورة.
وفي فضاء عمله الجديد، يـلتقي حمودي بـزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تـتـوخى نسـيان الوضعية الـبائسة، والتـهميش المـطارد لـهـم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البـنـزاكسول المشـرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتـلـقـّي طلبات الـزبائن. ومن حين لآخـر، يـلـتئم الشبان العاملون في سهرة «عـرمـرمية» يـتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشـرف الذي يُـفيض في سـرد أسـراره الجنسية مع إيـفا الأرتيـرية، ويشجعهم على بــلـْـع الأقراص المخدرة التي اخـترعها حـسن الـنووي… قــد تـبدو هذه المشاهـد عادية ومـألوفة بالنسبة إلى شـبانٍ يـعيشون على هامش المجتمـع، لـولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فـضاء تـحرسه عـيون سماحة السيد وخـُـطبه النارية، وصـور شـهداء المقاومة: «بـالإضافة إلى الصورة الضخمة لـسماحة الـسيـّد، والمـمتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبـنية المــتـاخمة لـمبنى حـمودي، شـدّت نـظـره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمـدة الكـهرباء. فهو حفِظ تـقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكـثـر من وجـهه هـو، حتى إنه لطالما شـاهد أصحاب هذه الوجوه في مـناماته» ص.50.
هذا العنـصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُـحيـل على أجواء إيديولوجية معينـة في لبـنان، هـو ما يـعطي لـ «أورويل في الضاحية الـجنوبية» أبـعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتـناقض، سـنـتـوقف عندها بـعـد حـيـن. ونـجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يـرسمها بـاقتصاد وتـركيـز لـيدفع القارئ إلى استـكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بـتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَــرَ إلى بـتول وهي تتكلم على التلـفون يـصدق أن كونـداليسـا رايسْ هي على الخط الآخـر. ولا مـرة كانت بتول منـشغلة عــبـر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستـوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجــيلا ميـركيل بـأمـرٍ مّــا». ص. 33. لـكـن «حمودي» يـستــأثـر باهتمامنا لأنـه يـظل من بـداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُـرحـه السـرّي المتـصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول بـرصاصة طائشة. وهذا ما يـبـرر الـفـقـرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمـر باستحضار الأخت في ذاكرة حـمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لـم أشـرّع أبوابي يوماً إلا أمام عـيْـنـيكَ…أعـذر كـآبـتي ومـسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تــخبـئ بـين كـفـيْـكَ ابـتـسامة تـشبه الـبدايات الـمـباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.

عنفٌ مستـتر وَمكشوف
يـبدو جـلياً، بعد إبـراز طـريقة الـسـرد السيـنمائي وعناصـر الشكل القائم على المـشـهدية والشـخوص الـمـنـتـسـبة إلى فـئات مُـهمشة داخـل فضاء إيديولوجي مُـهيـمِـن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سـدنةِ الـضاحية الـغـربية، أن عـنـصـر المُـفارقة والتناقض يضيء تــأويـل الدلالة في الـرواية. وإذا كان العنوان يُـخصص الضاحية الجنـوبية من بـيروت، فـإن الـدلالة لا تـسـتـقيم من دون استحضار الكـليّـــــة المجتمعية التي يـنـتـسب إليها الجزء الـمقتطـَع، الـمُـوظف في الـتمثيـل الـروائي. من هذه الـزاوية، نسجل أن سـيـطـرة الإيديولوجيات الطائفية سمـــة ٌعامة في لـبنان، ضـمن نـظام سـياسي يـدّعي الديموقراطية ويـنـتـحل مظاهرها.
والمـفارقة بارزة داخـل كل طائفة، بـين النــخَـب القيادية وعامة المواطنين الـمـنضوين ضـمن الطائفة. ولعـل الـتـنـاقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن الـمرجعية الدينية الـداعـمة للخطاب الإيديولوجي تـتـطلع إلى الشـمولية الـمـتـخـطية لـلقـطر أو الـبلـد الواحد. ومن ثـم، تـبـدو لـنا شـخوص «أورويـل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لـتـناقــــضٍ مـزدوج: الـعنـف الذي يخضع لـه أتـبـاع الـطائفة/الإيديولوجية من خلال الـخُـطب والصور والـتـأطير السياسي الأحــادي. وفي المقابل هناك عـنف مكـشوف يتـمـثل في نوعية الاستـغلال الذي يمارَس على نماذج من الفـئات الـمهمشة التي لا تـستـطيع أن تكسب عيشها في شـروط تحفظ الكرامة، فـتـتــظاهـر بالانتماء إلى مـبادئ الطائفة الـمـهيمنة، فـيمـا هي تمارس سـلوكاً مـخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السـائدة: «ثـمة على جدران المحلّ الكـثـيـر من الصور والعبارات التي تحثّ على الصـبر والتواضع، بـالإضافة إلى بـيْتـيْن من الشـعر لـلإمام عـلـيّ، علقـهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجـر ريْـحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شـرابنا من دم أعدائـنا/ وكأسنا جمجمة الـراسِ» ص 75. لـكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سـياج الوعظ والإرشاد، لا يـتـرددون في انتهاك التعاليم عندما تستـبد بهم شهوة الحياة، فنـجد حمودي يـنـقاد إلى مشاهدة أفلام الجـنس التي أعطاها له صديقه شـادي، ونجد الشلة في سـهـرتها تـقبل على الشرب والمخدرات لـتـحـمّــلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تـتــهدّدهم في كل حيـن. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شـبان المقهى ووُرودِ خـبرٍ عن تـوقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهـر: « …ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض الـنـهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كـتـمـها على طريقته الخاصة ويــفشـل … خالـطتْ ابتـساماتهم الدموعُ وقد تـواطأ كل منهم أن يسـتقبل دموع الآخـر بـدون أن يـنـبس بـحرف» ص 140.
لـقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبــية»، إلى جانب تـمثيل حـيواتِ مـهمشين غائـصـيـــن في تـناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شــكـل روائي تـجريبي لـه جماليـتـه، أن تـقدم في الآن نفـــسه، نـوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُـصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لـغة تمتح من مـعجم هـجين يـنطوي على أبعاد فكرية وشعـورية كاشــــفة لـوجود أولائك المـتـروكين على الحساب. ومـــن هذا المنظور، تـنـدرج رواية فـوزي ذبيان ضـمـــن إبـداع الروائيـيـن العرب الشـباب الذين يستـوحون الـواقع المـتـردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصـخب الإيديولوجي الـعـقـيـم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى