يانيس ريتسوس إلى العربية في مجلد أول

محمد الحمامصي
افتتح الشاعر والمترجم جمال حيدر المجلد الأول من ترجمته للأعمال الكاملة للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس مؤكدا أن ريتسوس ليس فقط من أكثر شعراء اليونان المعاصرين سطوعاً وأغزرهم نتاجاً، بل من أغزر شعراء القرن الماضي، لافتا أنه لوّن خلال مسيرته الابداعية التي تجاوزت 56 عاماً، مداه الإغريقي والمتوسطي، والعالمي لاحقاً، بآفاق شعرية غدت بالنسبة له طقساً روحياً ملازماً لشهيقه، وجمع بين كفيه لعبة الزمن وبعثرها بين المنافي والمعتقلات والسجون والمصحات التي منحت عالمه مزيداً من المعرفة، وكماً غريباً من الادراك والمناعة، صانعاً من الشعر لوحات تستمد أبعادها من أزمنة عسيرة وقاسية.

وقال في مقدمة الأعمال الصادر أخيرا عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر “ليس من الغريب أن يكون ريتسوس من أغزر شعراء القرن الماضي، يكتب في كل سويعات نهاره، مكثفاً الكتابة وموسعاً مداها، باعتبارها غريزة ممتلكة لأسرارها ومساحة وجدانها.. غريزة عسيرة الوصف تجعل كل الأشياء المجاورة لها، حتى التفاصيل اليومية المهملة، نتاجاً شعرياً يمتد في فضاء واسع الحدود والعمق”.

وأشار إلى أن الجديد الذي قدمه يانيس ريتسوس على صعيد الشعر اليوناني لا يكمن في الريادية، وأهميته لا تكمن في التعبير عن حاجات إبداعية ملحة فحسب، وإنما في الإسهام الملحوظ لبلورة تيار ثقافي ينطوي على الإقرار في البحث عن الحقيقة بوجوه ومعان عدة، على النحو الذي يضع الشعر في سياقه التاريخي، محاولاً أن يكون مختلفاً.. متفرداً، ومدافعاً عن الاختلاف.

وأضاف “حاول ريتسوس بلورة مدرسة شعرية تحت عنوان: الثورة في الكتابة، وهو بذلك أحد الشعراء العقائديين القلائل الذين دافعوا باستمرار عن الحرية والديمقراطية، دون مساومة أو تردد، موصلاً نبرة الحداثة بمحور تحرير الإنسان، مؤكداً في الوقت ذاته أن التغيير ليس ممكناً إلا بثورة ثقافية شاملة تعتمد على منهج واضح، رافضاً بذلك الشعر السياسي المباشر، مدافعاً عن الشعر المؤسس للغة جديدة وحساسية مغايرة، والموحي بعالم آخر مكانه الرغبة والمخيلة، لذا عزز اللامرئي والباطني، أكثر من تركيزه على المحسوس والظاهر.. الحقيقة الأكثر عمقاً هي أن نتاجات ريتسوس لم تنل الاعتبار الكامل – محلياً وعالمياً – فحسب، بل إنها نالت أقصى حدود الشهرة والنجاح، إذ غدت أشعاره أغاني ترددها حناجر العمال في المصانع والطلبة في المعاهد والجامعات وساهمت في إيقاع خطى جموع المسيرات والتظاهرات، بعد أن لحنها الموسيقار الذائع الصيت ميكيس ثيوذراكيس، باعتبارها رافداً معنوياً ضد القمع والإرهاب والسجون والجور والفاقة.

وأوضح “رشح ريتسوس مرات عدة لجائزة نوبل للآداب بشكل رسمي ابتداءً من عام 1980، لكنه لم ينلها، بسبب انتمائه اليساري في أزمنة الاستقطاب السياسي والفكري الحاد بين القطبين، وحين نالها الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1971 قال: “أعلم تماماً ان ذلك الإغريقي ريتسوس يستحقها أكثر مني”. بالمقابل كانت حياته محطاً لجوائز عالمية ومحلية عدة. يفسر ريتسوس الظاهرة بقوله: “رشح الروائي ليون تولستوي لنيل الجائزة، ولم يحصل عليها. حينئذ نالها الشاعر الفرنسي إسيلي بريندو لاعتبارات عدة، منها العلاقات الدبلوماسية المتنامية بين فرنسا والسويد، أين بريندو الآن؟ لقد محاه الدهر، بينما ظل تولستوي عموداً بارزاً في مساحات الإبداع والفكر”.

وحول مسيرة ريتسوس الشعرية رأى جمال حيدر أن ثمة ثلاث حلقات أساسية في هذه المسيرة: مونمفاسيا (مكان ولادته ونشأته الأولى) وأثينا باعتبارها آصرة التواصل مع المستقبل، ومركز مصحات معالجة مرض السل، إلى جانب المعتقلات والمنافي البعيدة والمقفرة. إنه عالم الشاعر ثلاثي الأبعاد الذي غلف نتاجاته على مدار مسيرة حياته. ورغم الانحياز العفوي إلى الأفكار التي يعتنقها، غير أنه لم يكن شيوعياً بالمعنى التقليدي، وليس من أنصار السياسات المغلقة.. إنه الباحث على الدوام عن الحرية والعدل والاختلاف.

وقال: “آيا نيكولاس” حي بسيط في قلب العاصمة أثينا، في طرف الزقاق بناء من أربع طبقات، في الطابق العلوي يقطن ريتسوس: 39 ميخائيل كوركا: غرفة استقبال تختصر العالم بأشيائها: طاولة مستديرة، علب سجائر محلية رخيصة دوّن على غلافها الخلفي أفكاراً شعرية ومسودات لقصائد، تخطيطات لبابلو نيرودا، لوحات زيتية، صور فوتوغرافية، بورتريهات، أحجار مصقولة رسم عليها ريتسوس في فترات الاعتقال والنفي أشكالاً إنسانية أليفة مليئة بالحب، موزعة على زوايا الغرفة، تكوينات فخارية، أيقونات، تماثيل، أرائك، أكداس من الكتب بلغات مختلفة موزعة على نحو فوضوي، أصص زهور، قصاصات لمسودات قصائد، مصابيح ملونة قديمة، وآنية لمداد أسود. غرفة متواضعة تدعو البشرية إلى وليمة عادة ما يقيمها الشاعر بين جدرانها”.

وأشار حيدر إلى أن بساطة عوالم ريتسوس تكمن وراءها حقيقة تتبلور في الذهن المسكون بالألم الإنساني، ما يجعلنا نتعامل مع نتاجاته الشعرية بعفوية، لكننا نظل نكتشفها قراءة إثر أخرى، وزمناً بعد آخر، إذ تنهض تلك القصائد على أرض المصادفات وتتداخل الأشياء وأطيافها وتلتقي في شبكة تثير الاضطراب والدهشة في آن.

قصيدته مساحة مفعمة بالأشياء البسيطة التي تشف عبرها، بصورة مواربة، الدلالات والرموز المتراكمة والخافية، وتكثف التفاصيل حضورها لتحل محل الوجوه والشخصيات المجهولة والغامضة والعابرة كالأطياف. إن بساطة ريتسوس مخادعة، وأن أكثر قصائده تمثيلاً لعمله هي تلك التي يبدو فيها الصفاء الظاهر منسجماً مع الغموض غير المتعمد النابع أصلاً من طبيعة الواقع الذي ترسمه رؤياه الذاتية. وبهذا المعنى إنه أحد أهم رواد اعتماد اليومي والسردي والتشكيل البصري الذي تصخب به قصائده، مؤسساً عبر ذلك عالمه الخاص وتراكيب لغته المميزة وأبعاد صوره الشعرية، وهو عالم يأبى على التصنيف المسبق لأن عمقه الفلسفي غالباً ما يستحوذ على مداه الأفقي.

في هذا الإطار تبدو نتاجات ريتسوس سهلة وبسيطة للوهلة الأولى، فثمة تجربة جوهرية عميقة تختفي وراء بساطتها الظاهرة، كما تمثل اللعبة الشعرية التي يتقن صنعها، جانباً إبداعياً معقداً رغم سهولته الظاهرة.

وفي تحليله لقصيدة ريتسوس، أكد حيدر على أنها غالباً ما تستدرج المتلقي إلى شرك محكم. مقدمة عادية لمشهد خارجي عام تفضي بالقارىء مع كل جملة إلى التورط التدريجي غير المحسوس في لعبة تغوي بالتواصل عبر تفاصيل يومية منتقاة بدقة، لتأتي المفاجأة وتحكم قبضتها عادة في المشهد الأخير. إذن ينبغي إعادة القراءة مرة أخرى.

وراء التفاصيل التي تضج بها قصيدة ريتسوس يكمن الجوهر الشعري القادر على منح الأشياء مواصفات تحررها من تناقضاتها الخارجية وتسبغ عليها ظلالاً وأطيافاً، واليومي هو العنصر الأساس في القصيدة، لذا فإن البناء يعتمد حدّاً أقصى من صرامة الانتقاء. لا مجال لزوائد أو ثرثرة إنشائية. ثمة تقنية قصوى في إيراد الضروري لتبقى القصيدة محافظة على رهافة يومياتها ومستحضرة جزئيات الحياة.

وأضاف “إن ريتسوس فنان تشكيلي يرسم بريشة فائقة الدقة مفردات تخاطب البصر مثلما تخاطب الوعي. فالتأثيرات الإيقاعية والنغمية تأتي من خلال استحضار المشاهد الصوتية بالدرجة الأولى، مضيفاً رنيناً خاصاً على فنه الكتابي لعمق صلته بالفن البصري كلوحات مركبة الأبعاد قادرة على سرد الحكاية العالقة بخطوطها.

تسود في أشعار ريتسوس رغبة في الاعتراف، وغالباً ما تختفي هذه الرغبة خلف شخصيات الشاعر وحواراتها. ومنذ مجموعته الأولى “جرّار” 1934، واصل الشاعر طرق هذا النحو المبتكر في عوالم القصيدة غير المرئية. اعترافات تتواصل ليكتمل محيط دائرة السرد الدرامي، ساعياً إلى نتاج يطرق أبواب الحلم والخيال متحرراً من كل ما يكبله ومعززاً في الوقت ذاته جوهره الإنساني.

وأوضح حيدر أن ريتسوس اكتسب ميله للغنائية من خلال مزاوجة الرثاء مع الحماس، مستلهماً ذلك من انتماء وطني عميق، دون التوقف عند ما هو عنصري أو تفوقي، ليقدم الإجابات عن الأسئلة المحيرة والقلقة إزاء موقف الشعر ودوره في المنعطفات الشاخصة في حياة الناس، متجاوزاً ما هو شخصيّ وذاتيّ ليسجل الشهادة الأهم حول علاقة الشعر بالبشر، وعلاقة البشر بالوجود، متأملاً في تحديد قيمة الشعر في إطار الثقافة الجمعية.

وأعلن حيدر أنه في هذا الكتاب حاول تقديم تجربة ريتسوس الشعرية للوصول إلى مستوى الجهد الكبير الذي قدمه، والأمل الكبير الذي ظل يرافقه في كل مفارق حياته. ودراسة ريتسوس وتقديمه، في رأيي، التكريم الأفضل لتجربته. ولأني قد تعرفت على ريتسوس وتعلمت منه وتأثرت بشخصيته وبعلاقاته مع الأشياء والأحداث، لهذا تغدو الكتابة عنه وترجمة أشعاره أكثر صعوبة.. وأوسع عسراً.

اختار حيدر للمجلد الأول ثلاث مجموعات، وفقا له “هي الأقرب إلى ذائقته الشعرية، وتمثل، باعتقادي، انعطافات شاخصة في مسيرة ريتسوس. إذ أفصحت مجموعة (إيروتيكا) 1981 عن معرفة الشاعر بجسده وقد تجاوز العقد السابع من عمره، مقدماً اعترافه الصريح: حين يهرم الإنسان يبدأ بإدراك أهمية جسده.. الجسد كون عظيم ليست لنا القدرة على اكتشافه إلا عندما نشيخ.

ومجموعة “متأخراً.. متأخراً جداً في منتصف الليل” بالأجزاء الأربعة التي تضمها، والتي صدرت بعد رحيله، المتخمة بإحساس واضح بالكهولة، وهي بذلك تتميز عن بقية مجموعات ريتسوس الشعرية الأخرى المفعمة بالحياة. إضافة إلى مجموعة “صفير السفن” وقصيدتها الوحيدة “الصيف الأخير” باعتبارها أخر ما كتبه ريتسوس قبل رحيله.

ونبه حيدر إلى أن هذا العمل برمته يمثل خطوة أولى في مسيرة طويلة، وقال “إنه مشروع العمر الذي أعود إليه في مساحات الزمن الممكنة، وترجمة الكم الأوفر من نتاجات ريتسوس، لتصدر الأعمال الشعرية بأجزاء متعاقبة، وهذا ما يمكن تقديمه للقارىء العربي غير المتجذر الذي لم يعرف شاعراً بقامة ريتسوس، أو ذلك الذي يسعى لتعزيز معرفته بأشعاره. وسيكون الجزء الثاني من أعماله الشعرية بالاشتراك مع الصديق الشاعر عبدالكريم كاصد الذي بذل جهوداً متميزة لمراجعة نصوص هذا الكتاب في شكلها الأخير ومقارنتها بالترجمات الأجنبية المتوفرة، وفي أحايين عدة الاستعانة بأكثر من ترجمة في لغة واحدة للاستدلال إلى روح النص، وكان من نتاج هذا التعاون أيضاً، كتابٌ مشتركٌ لنصوص مختارة لريتسوس من المقرر أن يصدر عن إحدى دور النشر العربية”.

ووجه حيدر الشكر للشاعر هاشم شفيق لمراجعته النصوص في حلتها الأولى، والشاعر اليوناني افثيميوس أسوس الذي راجع نصوص بعض المجموعات، كذلك الدعم غير المحدود الذي قدمه الشاعر مؤيد الشيباني، والصحفي والمترجم زكري العزابي، والشاعر سيد أحمد بلال، والصديق صفاء محمد مهدي، والصديق بناغيوتيس غيوفناكيس، والصديق فهد الشومري.

• من نصوص المجلد الأول:

جناح صغير في بيت أحمر

على السجادة الحمراء

عارية تماماً

العينان مغمضتان

تنتظر أن يخلع حذاءه

وجوربيه

ليدلك صدرها

بقوة أكبر

بقدميه العريضتين.

***

جبلان

جسدان

شجرة وحيدة

ونهرٌ طويل

بعيد كما البحر هناك

بعيد كما الميناء الآخر

بحاناته

المجذفون

دكاكين الحدادين

الموسيقى هناك أيضاً.

***

ضباب

سهول

العتمة تتسع

كيف يمكن أن يكون هناك

منتصف الضباب الرماديّ

أحمر

منتصباً

بجسد عار.

***

القصيدة

آه القصيدة – يردد –

اتصال جنسي سرمدي

بلا ترقيم

ليس لمرة واحدة

أنها عبير الأرض

السماد وزهرة شجرة الليمون

ومَنيْ

أنها المعول والمجرفة

هناك على الرخام

جهد مضاعف

إنه العشق المتفرد

لا تنبس ببنت شفة.

***

ترتدي ثيابها ثم تتعرى

نارٌ ثيابها

نارٌ عريها

المسامير تذوب

نهر حديد

يسيل تحت الأشجار

ثلاث نوافذ تشرع

العصافير تتطلع نحو الداخل

عود كبريت في منقارها

ثمة اثنتا عشرة واجهة زجاجية

حمراء

ست منها ذهبية.

***

تحت السرير

فردتا حذائها

يحتفظان بشكل قدميها

بحرارة قدميها

يتنفسان

وعصفوران بيضاوان

بعيون سود

مع خاتم من معدن النيكل

على رقبتهما.

***

سرمديّ – ردد –

سرمديّ

جسد الإنسان

تكاثفت السماء

سماء حمراء

تغطس

ليس ثمة غصن تتعلق به

ولا أرض لتقف عليها

سماء كثيفة –

لجناحيك كي ينفتحا

عليك بالتحليق.

***

قميصه

لا تخيطه

أنها ترتقه بالدبوس

يجرحه حين يرتديه

كم هو جميل شكله متطابق مع القميص

يرتديه مفتوحاً

عند العنق

قميص ناصع البياض

ببقع حمراء.

***

مساء شهوانيّ

اوه ..

القمر في الغرفة

القمر على السرير

على الجسد العاري.

في القبو

خبطات معدنية

الحداد يسمّر

حدوة ذهبية

على حصان أبيض

الحصان المجنح

وأنتِ لا تكترثين

إن كانت الحدوة ثقيلة

هل سيحلّق مرة أخرى؟

***

بالرداء

تبدو عارية

وبدونه تبدو عارية تماماً

بجانب النافذة

تحمل كأساً طويلة

هل ستقدمها لك؟

ربما

تجرعت منها

تتحاشى النظر تجاهك

تبدو أكثر عرياً

بزهرة

بين النهدين.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى