رحل عن عمر ناهز 91 عاما: الفيلسوف زيغمنت باومان… صاحب «الحياة السائلة»

عبدالدائم السلامي

ولد المفكِّر زيغمونت باومان في مدينة بوزنان البولندية يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1925 لعائلة يهودية، وتوفي في بريطانيا يوم الاثنين 10 يناير/كانون الثاني 2017 عن عمر 91 عاما.
هرب بومان من بولندا على إثر غزو الجيش الألماني لها عام 1939 واستقرّ في الاتحاد السوفييتي. وإثر عودته إلى بلاده أعلن اعتناقه الفكر الماركسي وانضم متطوِّعاً إلى الجيش البولندي عام 1944، وخاض إحدى المعارك في وحدة عسكرية ضد الألمان، ليصبح بعد ذلك مفوِّضَ الخدمات السياسية ومساعدا للاستخبارات العسكرية الشيوعية حتى عام 1953. وفي العام التالي، حصل على درجة الفلسفة وبدأ تدريس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة وارسو، رغم أنه كان يحلم أن يصبح فيزيائيا. وفي مارس/آذار 1968، وبسبب حملة معادية للسامية في بولندا بإيعازٍ من النظام السوفييتي، غادر باومان بلاده وهاجر إلى إسرائيل ومكث فيها أربع سنوات، ومنها سافر إلى بريطانيا ونال جنسيتها. تزوج باومان من الكاتبة جانينا ليونسون ولديه منها ثلاث بنات: الرسامة ليديا بومان، والمعمارية إرينا باومان، والبرفيسورة في تعليم الرياضيات آن سفاردو. درّس باومان في جامعة ليدز برتبة أستاذ فخري حتى عام 1973 وترأّس فيها كرسيَّ علم الاجتماع.
انصبّ جهد باومان البحثي في بادئ الأمر على تأصيل الاشتراكية البريطانية عبر دفاعه عن الطبقات الاجتماعية ومساندة احتجاجات العمال، ثم تخصّص في تفكيك العلاقة بين الحداثة والشمولية والعولمة. تأثّر بكتابات ماركس وغرامشي ومانويل كاستلز وأنتوني جيدنز وروبرت كاستل وبيار بورديو، ونشر العديد من الكتب التي انتقد فيها شمولية الحداثة ونواتجها البشرية التي قايضت فيها مطلبَ الأمن بمطلب الحرية: حرية الاستهلاك وحرية الضمير وحرية النقل وحرية الاستمتاع بالعلاقات.
أطلق عام 1998 مفهوم «المجتمع السائل» وهو مفهـــوم مجازي صار متداولا كثيرا في دراسات ما بعد الحداثة، وهو ما جعله أشهرَ مفكر عالمي في القرن العشرين. نشر باومان ما يزيد عن خمسين كتابا ترجمت إلى لغات عديدة من أشهرها «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة» و»الحياة السائلة» و»الحبّ السائل» والخوف السائل» و»الرقابة السائلة».
ولا شكّ في أنّ ثقافة باومان النقديّة والتزامه السوسيولوجي والإنثروبولوجي في دراسة المجتمعات الحديثة، هما اللذان كشفا له عن وجود أزمة مفهوميّة متصلة بلحظتي الحداثة وما بعد الحداثة، وصورة ذلك أن في تشريع هاتين اللحظتين لحرية حركة الإنسان في المكان وفي الزمان وفي أسلوب الحياة وفي علاقته بذاته وتراثه أحدثتا اضطرابا في المعيش اليومي، وزادتَا من تسارع حركة الناس المادية والثقافية، حتى بات من الصعب على علم الاجتماع الإلمام بظاهرات الواقع الحديث ودراستها، لأن البحث العلمي لا يهتمّ في أغلب مشاريعه إلا بالظاهرة المستقرّة الثابتة، وهو ما لم يعد ممكنا مع مجتمعاتنا المعاصرة.
ولعلّ هذا ما حدا بباومان إلى أن يطلق مفهوم «المجتمع الصلب» ليُحيله على مجتمع الحداثة ويصفه بالشموليّ المبالغ في الحلم، وأن يرى في مجتمع ما بعد الحداثة مجتمع «الحداثة بلا أوهام»، ويطلق عليه مفهوم «المجتمع السائل» مُحيله على ذاك المجتمع الذي تتغيّر فيه حالات الناس وأفعالهم حتى قبل أن يتمكّنوا من توحيد سلوكهم، أو من تأصيل عاداتهم. فالمجتمع السائل هو مجتمع الحياة المميّعة المسكونة بحُبّ الاستهلاك واللذة، مجتمع بقدر ما تكثر فيه عروضُ الإنتاج الرأسمالية، تكثر فيه حاجات الناس الاستهلاكية التظاهرية.
وهي حياة غير مؤبَّدة، وغير مستقرة، ويتغيّر سياقها وظروفها باستمرار، ويكون فيها الفرد على قلق كأنّ الريح تحته بعبارة المتنبّي، غير قادر على خلق ديمومة في العمل والمكان والأسرة والزواج والعواطف والعلاقات العامة.
فنَعْتُ «سائل» في فهم باومان يدلّ على لحظة راهنة سِمَتُها هي عدم تأبيد الحالة الإنسانية وانفتاحها على التحرّر العامّ، دون الاستناد إلى عماد أو يقين معلوم، فهي حقيقة ممزوجة بشكٍّ دائمٍ. وهو أمر أدّى إلى غربة الإنسان ودخوله زمنَ بداوةٍ عالميةٍ أُفرِد فيها عن غيرِه، بل عن ذاته أيضا، فبات ضائعا داخل فضاءات معيشه المادي والرمزي المتغيّرة باستمرار، ومن ثمَّ تآكلت فيه مجموعة المفاهيم التي كانت مرتكزَ سماتِ شخصيته الإنسانية كالعُرف والهوية والانتماء. وهذا ما ألحّ عليه باومان في وصفه لمجتمعاتنا المعاصرة بكونها صارت مثل أعشاش الدبابير في بناما: فهي مجتمعات غير محمية بقشرة سميكة مثل ثمرة «جوز الهند» لتتوافق مع مرحلة الحداثة الصلبة، وما وعدت به من أهداف مباشرة كبناء الأمة وتأصيل مبدأ السيادة الوطنية وتحصينها حتى تكون حصرية وغير قابلة للتجزئة والاختراق، وإنما هي مجتمعات تصدق فيها تسمية «مؤسّسات الأفوكاتو»، ليّنة من الخارج مثل ثمرة الكاكي أو البرقوق ليونةً تتوافق مع الحداثة السائلة، وهي تتكوّن من تشكيلة بشرية متعدّدة الألوان والثقافات تسمح بالاختلاط بينهم، عبر مساعدتهم على التحرُّر من إكراه جغرافياتهم المحلية، وإذْ تفعل ذلك تجعل الفرد منهم معزولاً وبلا روابط اجتماعية حقيقية، ولكنها تربطه بشبكات تواصلية قابلة للاختراق، إنها مجتمعات ثابتة ومُتحوِّلة باستمرار في الآن ذاته.
ويذكر باومان في حوار له منشور في مجلة «فيلوسوفي» بتاريخ 31-8-2012 أن فكرة «السيولة» التي بنى عليها مفهومه السوسيولوجي قد حدس بها عام 1989، إذْ لمّا كان يجلس بجانب زوجته جانينا في قاعة الحفلات الموسيقية مفتونا بموسيقى عازف التشيلو يو- يوم- ما، وخلال أداء العازف إحدى مقطوعات باخ الرائعة، خطر بباله فجأة كتابُ «حداثة وازدواجية» الذي لم يؤلّفه بعدُ، لقد بدا في ذهنه كاملَ المحتوى ومفصَّل الأبواب. ولمّا عاد إلى بيته حرص على تحقيق رؤياه، فانكبّ على تحرير الكتاب كما لو أنه يُملى عليه (نشر هذا الكتاب عن مطبعة جامعة كورنيل عام 1991)، وبه أكمل ثلاثيته عن الحداثة.
وقد مثّل هذا الكتاب سبيلَه إلى اكتشاف مفهوم «السيولة». ويفسِّر باومان هذه الحادثة بكونها ظاهرة فريدة في مسيرته الفكرية، ظاهرة غامضة، رهيبة، وبِنْتُ الصُّدفة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى