في ‘بيت الكراهية’ سر لعنة الأندلس

عبد الله مكسور

“هنا في هذا البيت وتحديداً في غرفة المخطوطات، اجتمع كل من ثيسنروس وطلبيرة لست مرات على الأقل، ناقشوا فيها بعض القرارات الكبيرة، ولحساسية ما كانوا يناقشونه -ليس على مستوى الحاضر بل على مستوى المستقبل أيضاً- فقد قرروا أن تتم كتابته باللغات الثلاث الحية حينها”.

هذه أحد المشاهد التي يمكن من خلالها الولوج إلى رواية “بيت الكراهية” الصادرة منذ أيام عن دار فضاءات في الأردن، للروائي والصحافي السوري محمد برهان، فالقصة تدور أحداثها بين زَمَنَين وفي مكان واحد، أبطال مختلفون يعبرون المكان الذي أراده برهان ثابتاً في لعبة السرد، متحوِّلاً من خلال المخطوطات التي تم تدوينها بين عامي 1499 و1501 في غرناطة بثلاث لغات حيّة حينها هي العربية والعبرية واللاتينية، لتتضمن محاضر المناظرات التي أجراها رأسا الكنيسة الكاثوليكية، الكاردينال ثيسنروس والقس طلبيرة، في غرناطة آنذاك لتحديد مصائر الجاليات المقيمة في المدينة من المسلمين واليهود، عقب سقوط المدينة بيد الإسبان.
النبش في التاريخ

تكتشف الحكومة الإسبانية هذه الوثائق الثماني عشرة في البيت الغرناطي، لتستدعي على الفور ثلاثة باحثين يتقن كل منهم لغة من اللغات التي تم تدوين المخطوطات بها، ولتبدأ من هنا عتبة الزمن الثاني الحديث، الذي يقارن من خلاله الكاتب بلعبة سردية ضبَط من خلالها إيقاع الشخصيات التاريخية والحاضرة، عبر تناظر كبير في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين الماضي البعيد والحاضر الدموي الذي تشهده جغرافيات متعددة.

الرواية التي تتفنن في طرح الأسئلة يعرف كاتبها أيضاً سرد الإجابات متعددة الوجوه من خلال العلاقات الغرائبية الحاضرة المبنية على إرث الماضي السحيق، لذلك لم يكن غريباً في النص أن تحمل هذه المخطوطات اسم “لعنة أندلسيا” بعد انتهاء معسكر البحث في البيت التاريخي، وصدور قرار ملكي بحفظ الوثائق في قصر الحكم ومنع الوصول إليها، وحدها الوثيقة التاسعة عشرة كانت تكشف الواقع الآخر الذي عاش به المُدوِّن العربي للمخطوطات، لتكون هذه الرسالة التي تم العثور عليها في بستان بعيد بوابة العبور لفهم حالة العرب والمسلمين في السنوات القليلة التي سبقت وتلَت انتهاء الحكم العربي للأندلس.

المخطوطات التي كانت الثيمة والكنز في الرواية حمَلَت في مضمونها صورة الصراع الثقافي المتجذِّر تاريخياً وحاضراً، فمن خلال الكلمات تنقلب الحقائق وتتوه المعارف في لعبة النص التي يسردها الباحثون على لسان المدوِّنين الأوائل، هنا في هذا المفصل تظهر أفكار الكاتب لهدم وتحطيم بيت الكراهية من خلال إشاعة الحب، فالنقيض يأخذ مهمة إعادة بث الروح في الجسد المُتحفِّز لاستنهاض العداء والخلافات.

نسأل محمد برهان عن ظروف كتابة “بيت الكراهية”، والتحضير الذي قام به قبل الشروع في الكتابة، ليقول إن الكتابة عنده تمرُّ بمرحلتين، الأولى هي الإنضاج الداخلي، ثم مرحلة التشكيل. واختلاف طبيعة العمل المخطط له هو الذي يفرض فترة وظروف كل مرحلة، ففي “بيت الكراهية” كان الأمر يستند إلى حصيلة قراءات وإلى مشروع عكف الكاتب على دراسته لأكثر من عامين من خلال النبش في السنوات الأولى التي تلت دخول الملكين القشتاليين إيزابيلا وفيرناندو إلى غرناطة، وخروج الحاكم المسلم عبدالله الصغير منها، وبالرغم من أن سقوط غرناطة عام 1492 كان محط اهتمام كثيرين، إلا أن السنوات القليلة التي تلت ذلك كانت نقطة انطلاق برهان نحو فهم المقدِّمات والنتائج، فكان ضياع المدينة حدثاً ثانوياً في الرواية أمام تغيير وجه المدينة وسائر الأندلس من حاضنة تحتفي بالاختلاف الديني والثقافي إلى ثوب رمادي بلون واحد تسوده سلطة محاكم التفتيش.

ويتابع ضيفنا أنَّه مضى بعيداً في دراسة وتحليل الأحداث والوقائع والتفاصيل، بغية وضعها في نسقها التاريخي والاجتماعي في مرحلة الإنضاج، للوصل إلى التشكيل الذي طالما واجه رغباته الجامحة بالخروج عن المخطط المطروح كعمود فقري للعمل.
عوالم وأزمان

“شرق المتوسط حيث حطت السماء على الأرض، ونزل منها الأنبياء الثلاثة، تظهر هذه الأيام كجهنم حقيقية، والنار قد تصل منها إلى كل مكان”. بهذا الرابط الخفي بين قرون ماضية وحاضر عبثي يشدُّ برهان أوتار الرواية على إيقاعين وزمَنَين، نسأله هنا عن العقبات التي واجهته في ضبط الزمن الشاقولي العمودي والأفقي للنص في مسرح المكان الثابت، ليقول إن التدفق هو كلمة السر في ضبط إيقاع أي منتج إبداعي، وهذا التدفق هو الذي يُعوَّل عليه في رسم هيكل العمل الروائي وربط وشائجه ضمن منطق التجريب المتعدد في النص، كلمة السر في “بيت الكراهية” كما يكشفها صاحبها كانت “تبادل الأدوار” بين الشخوص على مستوى الحدث، هذه النقطة انسجمت مع الطرح في بناء المسار الحكائي للرواية الذي يقوم على فكرة أنَّ “التاريخ هو تبادل للأدوار”.

الرواية غنية بالأفكار والومضات التي يمكن من خلالها إعادة تشريح وفهم التاريخ والحاضر، فيقول الكاتب إنه “ليس هناك من سلاح أمضى من الصورة الكريهة في استنهاض العداء”، وهنا نتطرق معه للحديث عن الدور الذي يلعبه النبش في التاريخ باستنهاض العداء اليوم في العالم بجهاته واتجاهاته المختلفة، ليقول إنه غالباً ما يتم توظيف التاريخ والإرث المشترك لزيادة أوار الصراعات، فالمصالح الراهنة هي منبع تلك الصراعات لكن أطراف العداء يستحضرون غول التاريخ لينفخ في نار الكراهية ويزيدها اندلاعاً، التاريخ مارد حقيقي من السهل إخراجه من قمقمه لكن من الصعوبة بمكان إعادته إلى ما كان عليه بعد اكتشاف ملامحه وتفاصيله.

يتابع ضيفنا “العالم العربي اليوم يستحضر عداءً طواه التاريخ من ألف وأربعمئة عام، نتقاتل رافعين رايات تلك الأيام، اقتتال بعض السنة وبعض الشيعة المسلمين اليوم هو أوضح مثال على كيفية توظيف التاريخ في استنهاض العداء”.

ويتساءل برهان، كم سنحتاج من جهد واعِ لنعيد هكذا خلافات إلى حجمها وشكلها الطبيعي والذي لا ينبغي أن يعدو اختلافاً في وجهات النظر على صفحات الكتب وبين أوراق البحوث، “فبعض التاريخ لا يصلح للعبرة ولا للاقتداء به، بعض التاريخ يجب أن يدفن رمياً بالأحذية”، كما تقول إيلينا أحد شخوص روايته.

يقدِّم برهان في ثنايا الرواية فروقاً بين الكراهية والعداء، الكراهية يمكن تخفيف غلوائها بمحاولة الاقتراب أكثر من الآخر، بأخذ مبادرة كسر المسافة ولو كان ذلك على مستوى فردي ومستقل، لكن العداء أمر مختلف، فهو لا يرتبط بالمبادرات الفردية، إنه حالة جمعية يتطلب كسرها فتحاً إنسانياً حقيقياً، بحسب ضيفنا الذي يرى أن الجهل بالأسباب هو الذي يدفع الآخر لكراهيتنا وتعمية أعيننا عن رؤية أسبابه تلك، بعين التفهم تجعلنا نتمترس أكثر في مواقع عدائنا له، وهذا ما يحدث على الضفة الأخرى كذلك، فرؤية برهان تقوم على أنَّهُ في أي صراع إنساني، تنتج عنه كراهية ثم عداء، يجب التوقف للحظة والتمعُّن فيه وإليه من زاوية نظر الآخر، فذلك كفيل بتعرية الكراهية إلى حد كبير وبالتالي شق طريق ولو كان ضيقاً -في البداية- لكنه يصل إلى الآخر بأمان.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى