لغة الجسد في مسرحية «فاوست» الفرنسية

كاتيا الطويل

توقّفت الميثات والأساطير عند توق الإنسان إلى المعرفة. فهو لا ينفك يبحث عنها، يركض خلفها، يحكم على نفسه بالموت، بالعذاب، بالعقاب من أجلها. منذ فجر البشرية والإنسان لا ينفك يتناول فاكهة المعرفة والحكمة وينزل إلى الجحيم عقاباً له. «إيكار» نفسه احترق جناحاه في سعيه إلى الشمس، وهو سعي رمزي يمثل السعي إلى نور المعرفة والعلم. احترق جناحاه وسقط في العدم لرغبته في الاقتراب من الحقيقة التي لا ترحم ولا تساوم.
الميثولوجيا اليونانية بأسرها قائمة على هذه الرغبة في معرفة المزيد، فهي تدور حول أبطال يخاطرون، يتحدّون، يحاولون الخروج من جهلهم وفنائهم وعجزهم. تَراهم يدأبون على تخطّي القدر، يحاولون أن يعرفوا جوهر الحياة والموت والخلود والزمن.
ومن بعد الميثات، ظهرت روائع أدبية عالمية اتشحت بالرمزية والعودة إلى موضوع المعرفة ورغبة الإنسان في اكتشاف أسرار الخلود والشباب والحياة. وفاوست (Faust) بطل أشهر أعمال الألماني غوته ليس إنساناً مختلفاً. فهو الآخر بعد سنوات من التعلم والقراءة والدرس أدرك أنه ما زال لا يعرف، لا يرى، لا يُمسك الحقيقة بين يديه. والدكتور فاوست عالم، مختصّ بشؤون المنطق واللاهوت والفلسفة والميتافيزيق ولا يزال عاجزاً عن إدراك الحياة وأسرارها. وقد وضع الكاتب المسرحي الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته (1749 – 1832) رائعته العالمية في جزءين (1808 ثمّ 1830) لكن هذه المسرحية لم تُعرض يوماً بأكملها، بل كان يختار المخرجون جزءاً واحداً فقط لعرضه وليس العمل بجزءيه.
يُعرض في مسرح رانيلاغ (Ranelagh) الباريسي عمل غوته بجزئه الأول. وقد اختار المخرج رونان ريفيار (Ronan Rivière) ترجمة الشاعر الفرنسي الكبير جيرار دو نيرفال (Gérard de Nerval)، وهي ترجمة بديعة سحرت غوته نفسه عندما قرأها هو الذي كان يجيد الفرنسية وامتدح الترجمة والمترجم.
يبدأ العرض التراجيدي بأمير من أمراء الجحيم السبعة وهو «مِفِسْتُوفيليس»،(Méphistophélès) الذي اعتبره بعضهم الشيطان، وآخرون مبعوثاً من الشيطان. ويلعب مفستوفيليس دوره منذ البداية ويشيع القلق والرعب، فهو يُضفي السوداوية على الأجواء الخانقة، كما يزرع الرهبة في النفوس ويعلن اقتراب الموت. منذ البداية يُدرك المتفرج أن الشيطان هو المتحكم بالأمور وأن النهاية لن تكون طيبة للإنسان الفاني الطامع بالمعرفة، فهو كائن محكوم عليه بالتعاسة والموت والعذاب الأبدي: «هذا المساء جئت لأعلن الموت… سأزعزع أرواحكم حتى اليوم الأخير!».
وتبدأ الأحداث بالعالِم الفاني فاوست وهو يعقد بالدم صفقة مع الشيطان مِفِسْتُوفيليس. إنسان يطمع بالحياة والمعرفة والسعادة، وشيطان يطمع بروح جديدة تُضاف إلى مملكته الجحيمية في العالم الآخر. عهد غير متساوٍ، غير عادل، يحكم منذ البداية على الإنسان بالضعف والموت والخسارة. فانهماك فاوست بالمسرات الدنيوية الحسية الغريزية التي يقدمها له الشيطان في هذا العالم ما هو إلا قناع كاذب غير متساوٍ بالقيمة مع ما ينتظر فاوست من ألم وعذاب في العالم الآخر. فلا المال ولا السلطة ولا النساء تملأ الجوع والعطش إلى المعرفة والسعادة. الثمن باهظ، لكن فاوست لا يمكن أن يتراجع.
وتسوء الأحوال عندما يُغرم فاوست بالجميلة الطاهرة مارغريت. فيدخل الحب، وتلعب الغريزة بالنفوس، ويقسو المجتمع، وتؤول الظروف بفاوست وحبيبته مارغريت إلى ما لا تحمد عُقباه.
ديكور المسرحية بسيط وعصري، فالمسرح مُختصر عموما بدرج خشبي يتغير شكله بتغير المكان والزمان والأحداث. أما الملابس فبسيطة وحملت في الوقت ذاته معاني ورموزاً كثيرة. فبينما ارتدى فاوست العالِم الفاني ألواناً ترابية كالبني والأخضر في إشارة منه إلى طبيعة الإنسان المادية الأرضيّة، ارتدى مِفِستوفيليس الأحمر القاني دلالة على نيران الجحيم، على وهج الغريزة، على احتراق الحواس في نيران الرغبة والفوضى. وارتدت مارغريت فستاناً أزرق في إشارة منها إلى العذراء مريم التي ترتدي الأزرق علامة الطهر والعذرية في الدين المسيحي.
وقد أدى الممثلون أدوارهم بحنكة وتمكن، عدا عن أن لغة الجسد كانت شديدة التعبير والرمزية. فبينما كان جسد مِفِستوفيليس ممشوقاً ودائم العمودية والشموخ والتكبر، كان جسد العالِم فاوست مستديراً منحنياً. وكانت المشاهد في معظمها تصوّر صِغر الإنسان أمام الشيطان وانكساره الجسدي والروحي أمامه. وبينما كان الشيطان يُلقي كلماته ببرودة وغرور، كان فاوست المسكين يشطح بمونولوغات تراجيدية حزينة يندب فيها حظه وجهله ومصيره القاتم.
لقد أعاد المسرح الفرنسي التقليدي إحياء «فاوست»، رائعة من روائع الأدب العالمي المترجمة إلى لغات كثيرة من بينها العربية. مسرحية الإنسان الجاهل الذي مهما علم ومهما درس سيبقى أضعف من الآلهة والشياطين والقدر.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى