إبراهيم عبدالمجيد الروائي بين فنتازيا الثورة وعبث الواقع

يسري عبد الله

في روايته «قطط العام الفائت» (الدار المصرية اللبنانية)، يضع الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد قدماً في المتخيل، وأخرى في الواقع. يخلق جدلاً رهيفاً بين الفنتازيا والحقيقة، يظهر منذ المفتتح الدرامي للرواية وحتى الختام. ثمة افتتاحية دالة تبدأ بها الرواية، حيث تحيل على فضاء تخييلي، يختلط فيه الحلم بالواقع، تبدو فيها «لاوند»؛ المدينة المتخيلة؛ فضاءً فنتازياً بامتياز، يتكئ على بلد تبدو الإحالات عليه رمزية، اسمه «مصرايم»، قامت فيه ثورة في عام 2011، ترتب عليها خلع الحاكم. تبدو «لاوند» تنويعة على «مصرايم»، ودفعاً بالدلالة السردية إلى حيز البناء الأليغوري، الذي يغاير الأبنية الرمزية التقليدية، حيث ثمة توازٍ ما بين الخيال والواقع هنا، ما بين ثورة لاوند/ مصرايم، والثورة المصرية في كانون ثاني (يناير) 2011.
يبدو التصدير الدال للنص كشفاً عن هذا المعنى: «في بلد يسمى لاوند قامت ثورة قي اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في مصرايم. هنا ما جرى في لاوند، وأي تشابه مع الواقع غير مقصود» (صـ 6). ينحاز إبراهيم عبدالمجيد إلى الفانتازيا منذ الاستهلال الروائي، فيخلق لنصه منطقه الجمالي الخاص؛ «ابتسم الحاكم في دهشة وهو يرى أن أصابعه تمتد إلى الأمام، راح ينظر إليها وهو يقف في صالة قصره، وقد اتسعت عيناه. قال لنفسه إنه خيال، أصابعي في مكانها. لكنه وجدها تمتد وتطول وتنزل إلى الأرض. راحت تمشي أمامه إلى كل أرجاء الصالة، وتصعد المقاعد التاريخية التي تركها الملوك القدامى للسلطة الجديدة التي انقلبت عليهم منذ عشرات السنين» (ص - 7).
ولا يكتفي الكاتب بموازاة الواقع رمزياً عبر هذا البناء الأليغوري، ولكنه يؤسطره ايضاً. وتبدو هذه الموازاة بدءاً من أسماء الشخوص (اللواء سامح أبوعامود مسؤول الإعلام في وزارة الأمن والأمان- الحاكم أمير باشا أبوالعساكر- السر عسكر- جماعة النصيحة والهدى- الشيخ شمعدان- هديل/ سعاد حسني). وتبدو أسطرة الواقع عبر تجمد الثوار في أماكنهم في الميدان، ثم مرور هديل/ سعاد حسني لتلثم شفاه كل شاب وفتاة، فتدب الحياة في المجموع، ثم تصعد من جديد عبر أسطورة الحصان المجنح «أبيغاسوس». وتحمل الإحالة على سعاد حسني طابعاً رمزياً، فتداعب الوجدان العام الذي ألِف بطلته الجميلة، وهي تنشر الفن والمحبة والغناء. ثم يتحول الحاكم نفسه إلى فكرة طوطمية قديمة وفاشية.
يوظف الكاتب في مقاطعه السردية آليات الفنون البصرية المختلفة، وتحديداً فن السينما، وتقنيات كتابة السيناريو، حيث يمكننا قراءة مقاطع سردية كاملة مع إمكان تخيلها بصرياً تخيلاً ضافياً: «مدّ لها الحصان جناحه فصعدت عليه واستوت على ظهره، وارتفع بها، وإذا بسحابة بيضاء تهبط مسرعة إليهما تلفهما وترتفع أكثر، بينما صيحات الدهشة وعدم التصديق لما يحدث وإذا بالسحابة بعد أن ترتفع إلى مسافات بعيدة والعيون معلقة بها حتى كادت أن تختفي تظهر منها آلاف الطيور البيضاء مقبلة بسرعة ناحية الأرض فأصاب الكثير الهلع كما أصاب الكثير الدهشة». (صـ 53)
تتعدد مستويات الأداء اللغوي في السرد، فمن اللغة الكلاسية السامقة والرهيفة التي يستخدمها السارد الرئيس في مقاطعه ذات الطابع الإخباري/ الوصفي: «شمس حانية تشرق على بلاد اللاوند. شمس تعلن أن هذه البلاد جميلة وسط الدنيا. ترفع الأنظار إلى بهاء الفضاء على البحر وحول النهر وفي الشوارع البعيدة والأزقة في العشوائيات» (صـ 358)، مروراً باللغة المحايدة، ثم اللغة التي تقترب من فصحى المثقفين، وصولاً إلى العامية المتناثرة في الحوارات وفي بعض مناطق السرد.
تمثل الحوارات بين الشخوص جزءاً مركزياً من بنية الرواية، بحيث تضيف إلى الرؤية السردية وتتممها. فالحوارات بين السلطة في لاوند وأركانها تكشف عن ذهنية القمع والاستعلاء. إضافة إلى أن الحوارات الدائرة بين ممثلي الثورة من الشباب (أحمد خشبة/ مصطفى/ نزار/ شهيرة/ نورهان/…») تبدو محملة بشحنات عاطفية وانفعالية، وكاشفة عن وعي الشخوص بحتمية الخلاص عبر الثورة. يعتمد البناء الأليغوري هنا أيضاً على تلك التقسيمات الدالة للواقع، وموازاتها رمزياً ودلالياً. ففي لاوند توجد جماعة «النصيحة والهدى»، ومرشدها الشيخ شمعدان، ويوجد «أمير باشا أبوالعساكر»… وفي إطار اللعبة الفنية التي يوجدها إبراهيم عبدالمجيد في نصه، نراه يمعن في إيهام المتلقين بتلك المباعدة الفنية بين النص والواقع، ويتدخل المؤلف الضمني للتعليق على الحدث الروائي، مستخدماً آلية التعليق السردي: «والآن؛ بعد أربع سنوات وأنا أكتب هذه الرواية استطعت الرجوع إلى تعليقاتهم وأخذت بعضها هنا،…» (صـ 97).
وإذا كان المتكلم عيّنة أيديولوجية بتوصيف ميخائيل باختين، فإنّ لغات الشخوص في النص تبدو دالة على وعي أصحابها. ولعلّ نموذج أحمد خشبة يعد تعبيراً دقيقاً عن هذا التصور.
تنهض رواية «قطط العام الفائت» على آلية الإحالة أيضاً، عبر مسارين؛ أحدهما عام، حيث الإشارة إلى السياق السياسي والثقافي الذي يشكل الزمن المرجع للرواية، ويبدو واضحاً عبر عشرات الجمل والحوارات السردية داخل النص. والثاني يتأسس على دلالة خارج الواقع، ويظهر مثلاً عند الإشارة إلى الحصان المجنَّح، الذي يحيل على أسطورة أبيغاسوس، في الميثولوجيا الأغريقية، الذي ما إن ولد حتى طار.
يختار إبراهيم عبدالمجيد إذاً لحظته الروائية ببراعة، ويتخذ من القطط – الحاضرة في الثقافة الفرعونية والراسخة في الوجدان الشعبي المصري بوصفها بسبعة أرواح – معادلاً موضوعياً للشباب الثائر، الذي يتحول إلى قطط، بعد أن يعيد الحاكم عقارب الزمن سنة إلى الوراء، ويخوض دراما الثورة مع الآلة الجهنمية للقمع، وكأن الثورة لن تموت، قوتُها في نبلها.
هكذا يقدم إبراهيم عبدالمجيد نصاً مسكوناً بالمتعة الجمالية، والحيل الفنية، بدءاً من عنوانه المخاتل، مروراً بعلاقات شخوصه، ووصولاً إلى بنيته الفنية المازجة بين السياسي والجمالي، الواقعي والفنتازي في سردية متناغمة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى