الأمريكي وليم بيتر بلاتي: قدم في الفكاهة… وأخرى في الرعب

حسن داوود

بين الأفلام التي كانت تعرضها صالات بيروت، في ذلك اليوم من منتصف السبعينيات، نصحني المخرج الراحل مارون بغدادي أن أختار فيلم The Exorcist الذي يعني إسمه، قاموسيا، طارد الأرواح الشريرة. كان فيلما مرعبا إلى أقصى الحدود، بل إن كثيرين ممن كانوا في الصالة (الكوليزيه) غادروا مسرعين والفيلم ما يزال في منتصفه. وأنا، ألباقي حتى انتهاء المشهد الأخير وإضاءة الصالة، عرفت أن ذلك الرعب سيظلّ ملازمي لأيام، إذ لم يُرحني ضوء النهار في الخارج، ولا ازدحام شارع الحمرا آنذاك بالبشر العاديين المبعدِين، بحسب ما هو مفترض، عالم الأشباح المعتم وتخييلاته. كما لم ينجح مارون بغدادي في ذلك حين رأيته بعد دقيقتين من خروجي جالسا في مقهى الهورس شو. «كيف وجدت الفيلم»، سألني. وأنا، وكنت قد قطعت خطوات لا بأس بها نحو أن أصير في ثقافتي مادّيا تاريخيا، أجبته بأنه فيلم سخيف. بدوت حانقا على مارون، بسبب سخافة ما كان اقترحه عليّ، في الظاهر، لكن، في الحقيقة، لأنه أودى بي إلى الرعب الذي أرغمت نفسي، حتى نهايته، على احتماله.
مارون بغدادي، القادم إلينا آنذاك من أحلامه الأمريكية، كان يأتينا بما لم نكن نتوقّعه. «إنه أحد أهم الأفلام» قال مخالفا، بل مشاكسا، ماركسيتي التي، من أوائل وصاياها، أن الفنّ ينبغي أن يكون مفيدا. بهذا يكون الفيلم الذي أرعب مشاهديه في العالم، جهدا ضائعا لا معنى له، أو صناعة ضخمة لا غرض لها إلا التسلية المفزعة.
أي أن ذاك الفيلم خوّفني وأرعبني بلا طائل. لكنه، مع ذلك، لم يتوقّف عند نهاية عروضه. كان نجاحه المدوّي فاتحة لأفلام اندرجت تحت ما أطلق عليه النقاد آنذاك Theological Horror، وكان بين هذه الأفلام إثنان استتبعا The Exorcist حملا توقيع كاتب نصه وليم بيتر بلاتي ومخرجه وليم فريدكن ( وقد جرى تذكّر الفيلم، أو الكتاب، في السنة الفائتة، 2016، فأعيد تصويره مسلسلا تلفزيونيا.
وكما فعل بمشاهديه، تمكن الفيلم من إيقاف كاتب نصّه عند رعبه.
لم يستطع بلاتي أن يعود إلى ما كان يرى أنه أسلوبه وأساس موهبته. في مقابلات كثيرة أجريت معه ظل يكرّر أنه يرغب في العودة إلى كتابة النصوص السينمائية الفكاهية، وكان بارزا في مجالها إذ أنه كان مَن صنع الأدوار التي أداها بيتر سيلرز في فيلم «الفهد الزهري» (The pink panther) ثم في «طلقة في الظلام» الذي أُخرج سنة 1966، إضافة إلى أفلام فكاهية أخرى لقيت شهرة وإقبالا واسعين من بينها:
What did you do in the war Daddy
ومع أن فكاهية بيتر سيلرز تنتسب إلى ما كنا يمكن أن نطلق عليه في سنوات الستينيات والسبعينيات الفكاهة غير الهادفة، أو الإضحاك للإضحاك، تناسبا مع لا جدوى ذا إكزورسيست، إلا أن الفهد الزهري لم يلق منا الإعتراض نفسه مجيزين لأنفسنا ، كما يبدو، استراحة من نوع ما يحقّ للمحاربين.
لكن بلاتي لم يعد إلى موهبته الأولى، تلك التي هجرته بعد غرقه في «الرعب اللاهوتي». أما ذلك الإنتقال من الإضحاك إلى الإرعاب فيظهره في وجهين أحدهما ضدّ الآخر. وهو الذي أنهى كتابه في سنة 1971 (وقد جرى تصويره فيلما سينمائيا في 1973) في أعقاب نهوض الإتجاه الإيماني في الولايات المتحدة والإعتقاد بصراع الخير والشر إلى حدّ التصديق بأنّ قوى غيبية ماثلة في هذا الصراع، قال إن فكرة الكتاب أتته من عنوان قرأه في الواشنطن بوست في سنة 1949، أي قبل نحـــــو عشرين سنة من ذلك هو» كاهن يحرّر الولد رانييه من قبضــــة الشيطان». تلك الحادثة، أو الخرافة، بلغــــت مخيّلات الكثيرين في ذلك الزمن بينهم طلاب جامعة جامعة جورج تاون التي كان وليم بلاتر باتي طالبا فيها.
عودة الكتاب، إلى التلفزيون هذه المرّة، ربما يشير إلى عودة ما لزمن أمريكا الغيبي ذاك، حين كان يمكن لصحيفة في حجم الواشنطن بوست أن تضع، ولو بخليط من التساؤل والتحفظ، بل والتهكم، عنوانا مماثلا. على أيّ حال لم يكن الفيلم ليلقى هذا الإقبال ولم يكن ليتحول إلى واحد من كلاسيكيات السينما الأمريكية، ويخلق موجة سينمائية لم تتوقف إن لم يكن الخوف من عالم الأشباح متأصلا، وباقيا، في النفوس. كنت أنا، وربما لم أزل، واحدا من ذلك الجمهور العريض وقد كفاني من الأفلام الثلاثة أوّلها، تاركا الفيلمين الآخرين لمن لهم القدرة على مشاهدتهما.
وليم بيتر بلاتي توفي منذ أيام عن 89 عاما. في التعريف به ذكرت الصحف أنه كاتب ذا إكزورسيست، تاركة تجربته الفكاهية السابقة إلى تفاصيل المقالات. كما ذكرت أنه من أب وأم لبنانيين هاجرا إلى الولايات المتحدة. لم يذكر أحد هنا، في أيام عرض الفيلم، شيئا من ذلك. لو عرفنا بلبنانيته آنذاك ربما كنا بحثنا في الفيلم عن أرواح من عندنا حملها بلاتي معه إلى هناك.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى