المكان والانتماء دراسة نقدية في ديوان( طنجة: ومضات من جنون) للشاعرة: جليلة الخليع

د. عبد الفتاح أبو زايدة

خاص (الجسرة)

مقدمة:
الإنسان والمكان متلازمان، فالإنسان يتحرك في المكان، ويحتل المكان مكانة خاصة في كل الآداب , ويشكلبؤرة تتجمع فيها الأحداث وتلتقي فيها الشخصيات والأرواح والنفوس ، وكيف يمكننا تصور أي عمل أدبي يخلو من المكان، القصيدة أو القصة أو المسرحية أو الرواية، ويتعاظم شأن المكان عند بعض الأدباء فيكون هو المحور الذي يتشكل فيه العمل الأدبي، ويبدو ذلك جلياً في الأعمال القصصية والروائية.
ويختلف الامر في الشعر ليكون ذكر المكان عابراً في بعض الأحيان، ولكن يظل له شأنه ولا نقول بإهماله .
وبين أيدينا ديوان الشاعرة جليلة الخليع الذي فاجأتنا فيه بسيطرة المكان سيطرة كلية على قصائد الديوان.
المكان مدينة طنجة ..الميلاد والنشأة والحياة والوظيفة، فشكلت المدينة / المكان المحرك الرئيس للقصائد، فكانت له سلطة الإلزام الحضوري من أول قصيدة إلى آخر قصيدة في الديوان.
من هذه المفاجأة، وهذا التحميل الكلي للمكان كانت دراستنا الكاشفة عن هذه السلطة.
أولاً: قصائد بلاعنوان.
يحق لنا أحياناً أن نتكلم بلسان الشاعرة فيما لم تفصح عنه، ونتساءل: لم تركت الشاعرة قصائدها من غير أن تعنونها.
وقد أصبح من المتداول بين الشعراء المعاصرين وضع عناوين لقصائدهم، حيث إن العنوان يعد من مفاتيح القصيدة، وأصبح يحظى بدراسات نقدية معاصرة تحت ما يعرف بعتبات النص.
وتقول: يبدولنا أن الشاعرة وهي تتحدث في كل قصائدها عن المدينة (طنجة) كيف لها أن تختار عشرات العناوين التي تسم كل قصيدة بميسمها؟ . ومرد ذلك في رأينا أنها فضلت ترك القصيدة تتحدث عن عنوانها وترصده، ثم إن عنوان الديوان( طنجة ومضات من جنون) كان في رأيها – كما نتصور كافياً لتغييب العناوين الخاصة بكل قصيدة، ومن ناحية أخرى كانت تجاور القصيدة بصورة تعبر عن فحواها وهوائها وهويتها، وكأن الصورة صارت هي البديل للعنوان أو صارت هي العنوان نفسه.
والشاعرة إن لم تكن هي من قام بالتقاط الصور إلا أنها في تصورنا كانت لها رؤيتها فيها، لأنها كما نرى ويرى من يقع الديوان بين يديه العلاقة المضمونية بين القصيدة والصورة.
وإذا كنا نقول بسعة ساحة النقد، وأنه لايقف قيداً على حركة الأدب، إلا أنه في الوقت نفسه يكشف ويفسر ويؤول، ومن هنا كان الربط بين ما التقطته الكاميرا وما خطه القلم.
ولعل من الجائز أن نقول : إن مشاركة حاسة العين في تأمل الصور يعطي مجالاً أوسع للتصور, ويتيح لنا اقتراح العنوانين التي تتجاوز ما يمكن أن تكون كلمة أو كلمتين إلى استحالتها إلى بؤرة إضاءة تتجه نحو القصيدة لتشارك الجمالية والمضمون.
ثانياً: المكان : البطولة والامتداد
إذا أردنا أن نكون موضوعيين بحرفية البحث العلمي وتأسيس الدراسة النقدية، نقول إن الشاعرة شخصت المكان من أول قصيدة – بل من اول سطر فيها- حتى القصيدة الأخيرة، وجعلتنا نحن القراء وجهاً لوجه مع طنجة البطل الملازم للحكاية في قصائد الديوان كلها.
وتختزل الزمن فتضعه في دائرة المتكلم، تقول:
بيني وبين طنجة مسيرة عمر(ص9).
ونلاحظ أن الزمان تداخل مع المكان بصورة التحاميه، الشاعرة ابنة المدينة، وطنجة مدينة ساحلية فهي ابنة البحر، امتداد طبيعي في المكان من ناحية , وانسجام تام بين الشاعرة والمكان من ناحية أخرى ستنبئنا القصائد بهذا أثناء تحليلنا ، وكأن البحر / الأم لا تنفك عن امداد ابنتها بما تحتاجه لتوفر لها حيويتها المطلوبة، ومن يعش في هذه المدينة ينتسب بطبيعة الحال إلى البحر ويكون من أبنائه، المدينة والبحر والإنسان عائلة واحدة لا يجوز لأحد ان ينفصل عن الآخر، وإلا يكون قد خرج عنالقوانين الكونية التي تحكم هذه الثلاثية.
المكان الذي يتعلق به الإنسان يتحول إلى فصيلة في الدم، يصبح مادة لازمة في الحياة، إذا رفع قدمه عن المكان شعر بحزن شديد، وإذا عاد إليه عادت له الحياة، ومن الطبيعي أن يحمل الشاعر انتماءه الحقيقي للمكان الذي يعطيه معنى الحياة، وحب المكان لا فكاك منه، ولذا فإن الشاعر إذا أحسّ أن هناك من يسيء إلى هذا المكان ثار على هذه الإساءة لأنه يتصور أنها موجهة إليه، كما يريد للمكان أن يحتفظ بهيبته على الدوام.
تقول الشاعرة:
خواطر ارتكبت الجنون
وهمس للسماء وقت الصحو(ص9)
ولنا أن ندرك أن المدينة قد تعرضت لأمطار غزيرة عرقلت سبل الحياة فيها، ونحن نعرف أن الأمطارإذا اشتد هطولها انحبس كل شيء، وكم هي فرصتنا عندما يصحو الجو بعد امتلاء الشوارعبمياه الامطار، وكأننا نناجي السماء أن مزيداً من الصحو حتى نستعيد نشاطنا ونكون قادرين على الحركة، ومن هنا ندرك جمالية الهمس للسماء، وهي شيء يحدث معنا، وقد مثلثه الشاعرة أمامنا تمثيلاً يحمل حيويته النافذةإلى تصورنا وتخيلنا , ومن هنا تنشأ العلاقة بين النص والمتلقي وتتحدد ماهيتها من خلال طبيعة القصيدة .
ولا ينقطع الشوق إلى البحر الذي تطل عليه المدينة، وهو يحمل ايحاءات كثيرة إلى الشاعرة، وهي تغرس أشعارها على رمال شاطئه، وهنا ينادي البحر الشاعرة كي تأخذ بيده إلى الشاطئ، تقول:
البحر يشيرإليّ
هي أنت
خطي المدينة الأزلية
فلتعيدي رسم مدّي على الرمل (ص11)
البحر هنا سقيا المدينة، سقيا الإنسان، يريد البحر أن يكون فراشاً على الرمل يرتاح عليه الإنسان، وكم كنا نسرّ ونحن أطفال على الشاطئ عندما يمتد الموج الخفيف فيغطي الرمل وعند رجوعه نتبعه ونحن نصدر أصوات الفرح، فهنا تناغم نفسي ووجداني مع البحر يذكرنا بأيام الطفولة، وها ما صوره أبو القاسم الشابي في بعض قصائد عندما يبني الأطفال القصور على رمال الشاطئ ويأتي مدّ البحر فيهدمها ( فلا نضج ولا نثور) بلسان الأطفال كما صوره الشابي.
والقصيدة هنا هي الإنسان الذي يحمل هموم المكان، المكان الحزين، وكأنه فقد كثيراً من ملامحه مع مرور الزمن وتعقد الحياة الإنسانية والجي المتواصل للكسب والعيش , فلم يعد أمام الإنسان متسع من الوقت للبحر ، ففقد البحر كثيراً من قوته، انحسر مبتعداً، وكأن أحس بجفاء الإنسان , ولكنه في الوقت نفسه يريد استعادة امتداده واسترداد نشاطه،كل هذا يتجمع وينتشر في ذلك التشكيل لجمالية اللغة التي تعطينا يعدا تصويرياً قاسياً لمعاناة الإنسان وشحوب العلاقة بينه وبين المكان.
وليس غريباً أن يلتقي الحوار بين الشاعرة والبحر على بؤرة فلسفية، ترحل بالعقل لترتوي من التفاسير التي يلقيها البحر في عنفوانه وهدوئه، إنه الغموض والعمق مع الشفافية التي تقرب بعض الأشياء، وتظل أخرى بعيدة. تقول الشاعرة:
فلسفتي كفلسفة هذا البحر
بين غموض وعمق يوحي بالشفافية (ص33)
ونتساءل كيف يمكن تفسير هذه الفلسفة، وقبل ذلك كيف تم اكتشافها؟، ونقول إن التناغم الحادث بين الإنسان والبحر هو ما يولد الفلسفة والتقارب فيها، ويكثر التأمل لمن يقف على الشاطئ ويسرح بنظره في البحر، الاتساع واللون والأمواج، والامتداد والهدوء والتوازن.
ثم يقيس المتأمل هذا على نفسه، من هنا تنشأ الموازنة بين الفلسفتين.
ولعل من يتأمل البحر ساعة الشروق والغروب تخطر على باله أشياء أكثر من بقية ساعات النهار، وكيف يبدو البحر تحت الشمس، تقول:
ذاتي ترتروي ببحرك
شمسك تطل عليّ من أعلى ربوة
تصنعني أشعة نهار تبدأ بك(ص23)
وهنا لابد من الاشارة إلى ( أشعة نهار)، والاشعة معروفة للشمس ولكن لأننا نعيش النهار فقد جاء إسناد الأشعة إليه لأننا نسير في فضائه وقد أشغلنا عن التفكير في الشمس , وحسب الشمس أننا نشعر بها عند شروقها ثم ننشغل عن التفكير بها, ونعود للبحر في قول الشاعرة :
أتنفسك بجرأة
في لجة الحلم(ص35)
فالبحر لا تفارق صورته مخيلة الشاعرة ولعل هذا ما يفسر سلطة المكان على النفس الإنسانية.وإلا فكيف للإنسان أن يتحرك من غير المكان ؟ بل إن هوية الإنسان من اسم المكان .
ولا نزال عند حديث الشاعرة عن الشمس وهي المرتبطة بالبحر، حيث تستمر في جريانها وهي تطل عليه حتى تصل الى الخط الفارق عند المغيب، ولغياب الشمس أشجانه التي تثور في نفس الإنسان، إنه يمثل النهاية، والنهايات أياً كانت تحتزن بالحزن، حتى الأشياء السعيدة التي تنتهي يشعر عندها الإنسان بالحزن لأنه يود استمرارها.
والشمس التي نتمتع بضوئها ودفئها تغرب، ويجيء الليل وكأن الليل تغلب على الشمس فأغرقها، تقول:
والشمس تغرق
تعلن أنه تمّ الغوص
ولا شيء يوجد تحت الماء (ص41)
في الغرق إيحاء شديد بالألم، وتنها ل الاسئلة على مخيلة المراقب للغروب، ما القادم ياترى؟ ماذا يحمل الليل؟ وساعة الغروب ينتج عنها : فراق- ألم – حزن- سواد، انعدام الرؤية، هجوم الهواجس على الوجدان.
وهناك شيء في حياتنا لا بد أن نتوقف عنده وهو أن الإنسان إذا أحب المكان الذي يعيش فيه ونقصد به المكان الكلي: المدينة ثم الحيّ، فإن حبه يدفعه إلى إرسال عواطفه نحو الامكنة الجزئية في الحي، بمعنى أن يحدث توالد شعوري نحو المكان ومن ثم توالد مكاني.
وهذا ما حدث في ديوان شاعرتنا، فالمدينة ( طنجة) البطل المتحرك الذي لا يهدأ عبر أمواج القصائد، ونظراً لخصوبة المكان وحيويته – الجمال والنشاط والعطاء ومن ثم الراحة والاطمئنان، فإن المكان الكلي هذا الذي يشكل الأمومة الروحية يلد أمكنة أخرى : باب البحر – المنزل، تقول الشاعرة:
أعدت خطواتي الأولى بملامح مدينتي
منباب البحر ومنزل جدتي (ص19)
نجد هنا تلاحماً عضوياً ونفسياً وروحياً بين المكان الأم ” المدينة” وأبنائها” الأمكنة الاخرى الجزئية”، ولعل إسناد الباب إلى البحر يدل هيبة المكان، فللبحر باب يظل مفتاحه بأيدي أصحابه، وفتح الباب لا يحدث بصورة دائمة، فلا بد أن يكون البحر راضياً عمن ينتسبون إليه.
ويأخذ منزل الجدة امتداده في أكثر من قصيدة بوصفه المرفأ الأمين الذي ترسو فيه سفينة الروح، ولم تقل الشاعرة أو تسمي مكانا آخر .
إن منزل الأهل أو الأب أو الأم أو حتى الجدّ جزء من ذاك الكلي، ولكنها قصدت وتعمدت إسناده إلى الجدّة، التي تمتلئ حناناً ولطفاً ودماثة؟، ويفوح منها عبق الأيام المشع من عينيها، ويحمل وجه الجدة صفحات التاريخ حيث تشكل الكتاب المفتوح في تاريخ الأسرة العربية، بالإضافة إلى كونها تحمل القيم والأصالة وهي اليد التي تصنع وتربي .
وتستمر الشاعرة في سرد خب الجدة:
بالطرقات الممتدة إلى منزل جدتي
كانت ذاكرة الخطى تسترجع وقعها
كنت أبحث عني (ص27)
إذن هو الصوت الشاعري الذي يأخذ دفئه من حضور الجدة حتى في غيابها لأنها حاضرة في “الأنا” الممتزجة بالغياب الحاضر، وكأني بالشاعرة تقول لنحث عن أنفسنا في أرواح جداتنا، ولسوف يأتينا الصوت الذي يقول: أنت يا أنا هنا. ف(الأنا ) مختزلة في فضاء الجدة الذي يتسع لأبنائها أحفادها , وهذا يفسر الدلالة الجمالية في (أبحث عني )وهي جملة شعرية مشعة بشفافيتها وألقها .
ثالثاً: الانتماء: ترانيم المكان والبناء الوجداني:

تستجمع القصيدة قوتها لتعلن انتماءها إلى الأرض التي نبتت منها، وتنقش في فضاء المكان روحاً تظل مرفرفة لا تتخلى عن حيوتها وعشقها، وترتسم لوحات ترسل نغماتها المشحونة بحب المكان، وفي عملية استرجاع تستحضر الشاعرة طفولتها لتبرز أثر المكان في تطوير هذه الطفولة، تقول:
في زوايا الطفولة المنسية
أو قد شمس الحنين
في أكف اللحظات
أسترجع ضفيرتي (ص27)
تتسربل اللوحة بثوب سريالي فيه غموض ليس معتماً، يستدعينا للتأمل في نسجه وهيئته، ما بين شمس الحنين وأكف اللحظات واسترجاع الضفيرة، وهنا تنبعث تفاعلات الذات مع الزمن، ومع كل طلوع الشمس تتجدد الذكريات، جمال البراءة، ونسائم الطفولة التي لا تزال تفرش بساطها في حياة الشاعرة.
ويبدو أن هذا الاستحضار تسبب في حيرة الشاعرة، فالموازنة بين الحاضر والماضي تحمل الإنسان شعوراً فيه شيء من العذاب، فمن يأتي لنا بالطفولة وما تتميز به؟. وهذا السؤال جعل الشاعرة تقول:
حروفي تهرب من حبري
حبري يمتص أفكاري
وأنا بين ملتقى الطرق- والبحر (ص49)
وكأني بها تتساءل كيف لي وأنا أنتمي إلى مدينتي يتمرد قلمي على الكتابة والاستجابة لعواطفي وتجسيد موقفي، وهذا مما يعزز درجة الانتماء والاعتزاز بالمكان.
ولكنها لا تتوقف عن محاولات كسر الجمود والصمت، والتسلق على جدار تمرد القلم، فتقول:
أدنو من حفيف صمتي
من هزيع صوتي ( ص25)
وهذه المشاعر المركبة تركيباً مزجياً غريباً تزيد من حيوية النص وتجعل المتلقي أكثر تفاعلاً مع القراءة التي تجدد دلالتها في كل مرة حتى يصل بها المتلقي إلى الموقف الذي ينتظرنا وقد وزعته الشاعرة في ثنايا القصائد. وليس لقصيدة واحدة أن تحمل كل مايريده الشاعر , أو يحس به وإلا سيكون العبء ثقيلا على القصيدة الواحدة .
وفي أثناء القراءة يصعد جزء من الموقف / الانتماء ليكسر حدة الصمت التي تؤرق الشاعرة فتقول:
تتكلم روحي بأنفاسها المتراكمة
لتقول: أحبك (ص21)
ولكن لماذا الطفولة وموقف الانتماء حيتما يمتزجان وينسكبان في درب واحد؟.
نقول: حينما يسيطر أي شيء على الانسان فإنه يؤثر في حياته تأثيراً كبيراً فإذا ما كانت السيطرة للمكان يتحقق الانتماء بأوضح دلائله وأجمل معانيه، وليس هناك من هو أشد من الأطفال تمسكاً بأشيائهم، وإذا أحب الطفل مكاناً تعلق به وتراه يكرر الطلب في الذهاب إليه وأن يظل فيه، لذا كان استحضاراً لطفولة هذا المكان لتثبيت هذه العلاقة الأبدية بينهما، وهنا يظهر ضمير المتكلم الذي يفرد جناحيه على المكان مؤكداً تملكه وحبه، تقول:
طنجتي
هي الأشياء
تغادرني تباعاً
يظل وجهك مشرقاً بروحي
تستظلين بذاكرتي وأنا طفلة (ص43)
يتأكد الانتماء إلى المكان في مواطن كثيرة من الديوان، لأن الكلمة نفسها نبتت من حقل المكان وترعرت فيه، وأخذت أبعادها الدلالية من إيحاءاته التي لا تنقطع، فترى الشاعرة تكرر المكان الرئيس الذي يأخذ سمة البطولة فتقول:
طنجتي تنتظرني عند مطلع الورق
فلتسقني شايا
ولتمدّ أفكاري بقبس من نورها (ص49)
ومن بوح النص وإيحاءاته لتبرز المدينة شخصية مهيبة تحتفظ بدلالها، فتستولي على مشاعر أهلها وتسكن أحاسيسهم فيولونها الحب الذي تنتظر، والعشق الذي يتكافأ وأمومتها، وبدونها تصبح الحياة مريرة بائسة، ولذا فإن تأثيرها الوجداني ينسجم مع إيقاعها الجمالي، فهل كثيراً عليها أن تقول الشاعرة فيها:
ساحرة أنت
في تلاوينك التي نقشت بها يد طفولتي
دميتي هناك (ص67)
والدمية عند الطفل حياته العملية وكأنها جزء من نفسه، وكأني بالشاعرة تتخيل كيف لو ابتعدت عن مدينتها، وأساس حياتها ظل فيها، فكيف ستعيش؟ سؤال يختبئ في جوف القصيدة، ولا يجرؤ على الصعود إلى سطحها، لأن الإنسان إذا فقد المكان الذي نبت فيه خسر أشياء كثيرة وأحاطت به الغربة باطناً وظاهراً، فلمن سيغني، وبماذا سيترنم؟ ، ومن ثم نجد أن الأهازيج قد أودعتها الشاعرة المدينة، تقول:
أُغنية تختزل مدينة ( ص67)
فأين ستذهب هذه الأغنية إذا ابتعدنا عن المدينة، فهي اللحن الذي لا يغادر روح أبنائها، وهي اللسان الذي يتكلم ، و معين الفكر الذي ينتظم الحياة، وهي اللغة التي يصعب على غير أبنائها الحديث بها، هكذا تشكل المدينة ملامح أبنائها من ملامحها، وترسم لوحات بريشتها المبدعة، تقول:
تبصمين خطواتك
المخضبة بالسحر
لتكوني لغتي
صوري
التي تفيض على زمام المخيلة (ص77)
فهي تختزل حياتها، ولا تضيق بنا، تستوعب وتجمع وتعطي بلا حدود، وفيض عطائها لا ينتهي، والانتماء إليها يعطي حمايتها والمحافظة على شموخها، هنا يتجلى موقف الشعر الذي يتنفس بهواء المكان، ويستبقي من مائه العذب الصافي تقول الشاعرة:
قصيدتي المنظومة في صمتي
بوحي عمري
الفائت والمقبل بك ومعك (ص79)
أصبح المكان قصيدة منسوجة من روح الشاعرة/ الإنسان، حوار ذو شجون مع المدينة، مرفأ الأسرار لأنها صارت المكان والزمان، ما فات وما سيأتي، المدينة قوة هائلة تحمل الجميع بين يديها، وتعزف لهم أغاني الحياة، تقول عن البحر الذي يلاصق المدينة:
المتوسط يعيد كل النغمات لعزفي
وعزفي خواطر ارتكبت الجنون (ص9)
عندما يصل حب المكان إلى درجة الجنون، يصبحان شيئاً واحداً: الإنسان والمكان، البحر حياة مستمرة، وتناغم، ربما نفقد أشياءنا أحياناً، نفقد بعض انسجامنا، ولكن البحر يعيد مافقد، وهنا أخذت كلمة النغم موقفها الدلالي الكبير الذي يغطي الحياة بالدفء والنشاط والحيوية، ولن نبتعد عن قول الشاعرة في مكان آخر:
البحر يلقن لغتي أبجدية الموج
بين مدّ وجزر (ص59)
أصبح البحر معلماً، دروسه تتجدد باستمرار، لا يتوقف عن العطاء، وحركة البحر كلها مدّ وجزر فهي متكاملة متواصلة مع أبناء شاطئها، لا يغيب البحر عن أهله.
هذه هي المدينة التي يستجيب أبناؤها لنداء أمومتها، والشاعرة لا يمكنها إلا أن تكون منتميةً إلى المكان والزمان، المكان الذي يحتويها والزمان الممتد بين الذكريات والتوقعات، بين الماضي والمستقبل وبينهما الحاضر الذي كان مستقبلاً فأصبح ماضياً، امتزاج مغروس في دمنا.
والشاعرة تنبه إلى أن هيبة المكان يجب أن تستمر، وأن تظل أمومته هي الرابط المقدس الذي لا يجوز العبث به، وهنا يتجلى الانتماء بكل تقاسيمه ، فالمكان امرأة وهي الأم التي تنضوي تحتها كل الأمهات في حياتنا الواقعية، تتربع على عرش حياتنا كاملة الهيئة مع الحدث والوقائع الزمنية، تقول الشاعرة :
طنجة في سفر ذاكرة ولوحة
امرأة تعيد ضفائرها
على وجه التاريخ (ص15)
فالتاريخ هو الخيمة الكبيرة التي تظل المكان وتحفظ رسمه، هو أمين على كل حرف مسطور على لوحة الحياة.
والشمس بؤرة الزمان، ترحل وتولد من جديد ليستمر الزمن في تعاقبه، وهي التي تحب المكان الذي يستقبل الحياة بنشاط وافر تحبه الشمس , وإلا فما معنى الحياة ؟ ا تصحو المدينة بقدوم الشمس، وتنام عند مغيبها، تقول الشاعرة:
أمسك بيد الشمس
وهي ترتل في سمعي صخب الموج (ص17)
الموج هو ما يجعلنا نحس بديمومة الحياة للمكان، فالموج حركة دائمة كنفس الإنسان ومافيها من أمواج الحياة , البحر يمتد إلى الشاطئ فيغسله، فيعجبنا وتعطيه كثيراً من اهتمامنا، البحر وشاطئه يكتنزان بإيحاءات خاصة تهب على من يقف هناك، ولا يظل على حاله التي كانت قبل أن يتوجه إلى البحر.
ولمدينة البحر خصائصها التي تميزها عن غيرها من المدن أو الأماكن الأخرى، ولذا فليس غريباً أن تكتسب المدينة هذه سلطة أقوى من غيرها، وهنا يكون الانتماء الذي يتنامى باستمرار، تقول:
وأنتِ حلمي المتقد في كانون روحي
ما زلت ألون بك لوحاتي (ص45)
وإذن فإنه يجوز لنا أن تقول إن المدينة ببحرها وشاطئه تشكل لوحة فنية كبيرة تستوعب كل من أراد أن يكتب بقلمه أو يرسم بريشته.
جماليات النص الشعري في الديوان :
الأدب لغة جمالية، فيها الخيال والتصوير والرمز والتشخيص، والأساليب التي تكتسب الصفة الجمالية كثيرة، كما أن استخدام اللون والطير والماء، وغيرها من الكائنات الحية والجامدة له دلالته الجمالية، لأن لكل هذه الأشياء وظائفها في بناء النص بناء فنياً متكاملاً.
ومن الطبيعي أن يلجأ الشعراء أكثر من غيرهم من الأدباء إلى منابع الجمال اللغوي، الذي يحول اللغة من عاديتها ونظامها البسيط إلى بلاغيتها ونظامها الجديد.
ولم تكن قصائد الديوان لشاعرتنا بعيدة عن هذا التوظيف الجمالي، ففي مجال الصورة نجد أن الارتباط بين الشاعرة والمكان كان له أثره الكبير في ابتداع صور تجمع بين الخيال وما تقع عليه العين، فتتوجه إلى رمل الشاطئ وتقول: ” أرسم وجهي برملك” (ص 31) .
وهنا يمارس المكان سلطته على الإنسان الذي ينتمي إلى الأرض بكليته، فالمكان يدعونا إلى أن نجدد بناء أنفسنا باستمرار، فهو يحتاج إلى حيويتنا ونشاطنا، هو لنا وهو ملكنا فلماذا لا ننغرس نحن فيه، وهذا هو دلالة الترميم في أن الأرض التي تقع تحت سيطرتنا الطبيعية تمدنا بما نشاء، وعلينا أن نقدم لها ما يضمن لها العطاء المستمر، ولذا فإن الشاعرة تؤكد على هذه العلاقة الأبدية والملكية التي لا تنازل عنها مطلقاً فتقول:
أعود لمنزلي
وبيدي مدينة وغيمة (ص37)
فالمدينة تحتاج الحياة، والحياة في الغيمة، والإنسان يحيل الغيمة إلى حيوية المدينة، عندها تتمتع المدينة بحياتها التي تريد، وهذه الغيمة داعية الحياة، إنها تحمل الماء النقي الطاهر العذب , فينزل هذا الماء بخصائصه إلى الأرض,ولأنها كذلك فقد وظفتها الشاعرة في صورة أخرى بينها وبين الغيمة نفسها فتقول:
توقظني من غفوة ذاكرتي
فأسترجع فيها ملامحي القديمة (ص37)
انظر كيف تحولت الغيمة إلى مرافق دائم حريص على حيوية الإنسان، إنها الدعوة إلى الحياة وعدم الركون إلى استمرارية النوم أو الشرود أو الهروب، إنها دعوة إلى الحضور الدائم في ميدان الحياة ويظهر هذا التمازج في الديوان بين الإنسان وما يحيط به، السماء، البحر، الشاطئ، المنازل، ويظل للغيمة تأثيرها الحيوي وذلك في قول الشاعرة:
أصحو على صوتها (ص 17)
وهنا توظيف للصوت الحاضر الذي لا يغيب، بل هو الحريص على حيوية الحدث، وليس هذا فحسب، ولكن يظل الصوت ولكن بصورة أخرى فيها رومانسية شفافة ترافق الإنسان حتى في صحوه، تقول:
وهمس للسماء وقت الصحو
كأن السماء دائماً تكون ملبدة بالغيوم ( ص9)
وللصوت دلالته الحسية، وعندما يكون همساً يأخذ أبعاده النفسية من الهدوء والطمأنينة، والانتباه بشكل كبير، فلا ازعاج ولا فوضى ولا صخب، فقد أوجعنا صخب الحياة، وهذا الصخب المقابل للصوت الهادئ تصوره الشاعرة في قولها:
الطفلة بداخلي ترتجف رعباً
تلاطم الأمواج (ص 13)
هذا هو الوجه الثاني للحياة، الخوف، عدم الاطمئنان، ابتعاد السكينة، فإلى متى يسكننا الخوف، والطفلة من أشد الناس شعوراً بالخوف، لأنها سريعاً ما تعبر عن خوفها بالصراخ.
وترسم الشاعرة لوحاتها الفنية التي تصنفني على القصائد مزيداً من الحيوية والنمو الداخلي تقول:
يخترقني الموج تصفعني الشمس
تعلقني على أسوارها (ص 69)
اللوحة هنا تحمل صورة الإنسان اليوم، فهل بقي الإنسان للبحر، ولِم لم يعد يأبه بالشمس، وكيف سرقته حضارة اليوم المادية؟ ولماذا استسلم لها ؟ وإلا فلماذا تغضب الطبيعة ؟ وما مأساة الإنسان اليوم ؟
ونقول بأن القصيدة ليست تقريراً اجتماعياً أو انسانياً، ولكنها ايحاء أو إشارة وكشف، هي علامات على طريقة الإنسان، القصيدة تحاول أن تكون سفينة نجاة للإنسان الذي تلتف المآسي حوله, فهي بناء فني اجتمعت في لغتها أسباب الجمال المختلفة , فتبتعد عن التقرير والمباشرة , وتلازم الإيحاء الدلالي الذي يكشف عنه نشاط التلقي وهو يبحث عن مواطن الجمال وأساليبه في القصيدة .
ولا تنسى الشاعرة أن تتخذ من الشمس صديقاً قوياً في عالم الصراع التي تشتت فيه الرحمة، واشتدت معاناة الإنسان، تقول:
أمسك بيدي الشمس (ص 17)
فالشمس مصدر قوة، تشرق معلنة بداية نهار نشيط مفعم بالحركة، وعندما يحس الإنسان بضعفه، يحتاج إلى من يسنده، إلى من يمنحه القوة، فتكون الشمس هي القوة التي يلتمسها الإنسان، والإمساك باليد يفيد الرفق والحنان والمساعدة، وهي صورة استعارية نسبت الشمس، ولا أقول لتكون البديل عن الإنسان ولكن لتكون إلى جانب الإنسان، الذي يتعرض حلمه للضياع كما تقول الشاعرة:
البحر يبتلع حلمي (ص43)
احساس مرير بالضياع، وبخوف الإنسان مما هو قادم، فالبحر كما نعلم صديق، فيه دلائل الكرم والعطاء وحسن الاستقبال،ولكن أن يتحول إلى ميدان صراع تشتعل فيه نيران الأسلحة الفتاكة وتسير فيه البوارج والمدمرات، فكيف سيكون بحر سلام وأمن وطمأنينة، إنه يبتلع هذه القيم، ولكن يظل الأمل قائماً بأن يحتفظ البحر بلونه الأزرق البديع، وأن تنتهي حرائق الحروب المدمرة فيه، فتقول الشاعرة:
موعودة أنا بالزرقة (ص29)
لن يغيب جمال اللون عن أعيننا حتى لو تأخر أو تغير في مرحلة ما، وكون البحر يعد بلونه فلسوف يفي بوعده، ويعود لنا جماله، مع صفاء السماء، وقد عمل الصراع العالمي على تغييب هذا الجمال الكوني إن لم نقل قتله،ولكنالأمل يظل قائماً في نفوسنا بأن نار الحرب ستنطفئ يوماً ما، وتشرق الشمس على النفوس التي لوثها الدخان وأمرضها، وهذا الأمل التصوري صورته الشاعرة في إحدى قصائدها بقولها:
عندما تغادر الأوتار عودي
تسبح المقامات عند تطابق الأزرق
لأتمدد والتأمل على طول الخط الأبيض (ص31)
جمعت الشاعر اللونين ,كانت تناولت الأزرق ثم أضافت له الأبيض لون السلام والصفاء والنقاء، لون الطبيعة والهدوء، اللون الحساس الذي يتأثر بغيره من الألوان، لوحة يتمثل فيها الأفق حيث يمتد نظر الإنسان، وتختال الخواطر في تأملاته، ولعل اللجوء إلى هذا الأفق الكوني هو شكوى وهروب من حضارة الحجر التي قيدت أنظارنا وحرمت أبصارنا من التأمل المطلوب في هذا الكون العظيم.
وفي التقاء اللونين الأزرق والأبيض جمال هادئ يريح كثير من هموم النفس وعنائُها.
وفي التقائه روحانية، نسمع صوت السماء في لونها الأزرق وارتباطه مع اللون الأبيض، تقول:
تسبّح السماء
معلنة الأزرق
ويرتد الأبيض على طرق المتوسط (ص 65)
ندرك أن انسجام اللونين لم يأت عبثاً بل جاء ليؤدي مجموعة من الوظائف المرئية والنفسية، ترتاح العين إلى اللونين، وتمتد الراحة إلى النفس، فسترى الراحة فيها، ويتساءل الإنسان في تأمله: لماذا لا تكون الألوان الأخرى خاضعة لهذين اللونين؟ لماذا تسيطر الألوان الداكنة على العالم اليوم؟ أو هل لم يعد الإنسان يفرق بين لون وآخر؟.
وهنا نقول بأن نداء خاصا ترسله الشاعرة إلى السماء والبحر أن أفيضا علينا من لونيكما ليكونا رمز العالم اليوم. فهو يحتاج إليهما بعد أن سيطرت ألوان الدم والظلام على العالم .
وتحلق الشاعرة في أفقها البعيد لترسم تداخلاً حميماً بين الألوان، فيضاف اللون الأخضر إلى السابقتين في قولها:
مقهاتي عند زرقة بحر وخضرة
إبداع يكتم شعراً (ص 55)
الخضرة لون النماء والازدهار، رمز لترعرع الحياة، فالمدينة المحاطة بالبحر من ناحية والخضرة من ناحية أخرى تخف عليها حدة مادية الحضارة المعاصرة، فجمال الألوان هو جمال الحياة، وبين البحر والخضرة يرتشف المتعب قهوته فينال قسطاً من الراحة والهدوء والانسجام، يجدد نشاطه، وبذا تتحول المدينة إلى قصيدة شعر، أو لعلها تصبح شاعرة، بل هي شاعرة بما فيها من شعراء .
وتتجلى لوحة شعرية أخرى في قول الشاعرة:
اللوحة المخضبة بالبياض
تذرف دمعاً من خضرة وزرقة
من عيون النور (ص57)
والخضاب للون الأحمر, ولكن اسناده جاء للأبيض هل لأنه لا يستطيع بعد أن يمتلك حرية بياضه؟ ولعل هذا ما تنبئ به عبارة “تذرف دمعاً” ولكنه ليس دمع الحزن على كل حال، ولكنها دموع الأمل في صفاء أكثر، وانسجام أروع مع اللونين الآخرين الأخضر والأزرق لأن الدمع ينزل من عيون النور الذي هو أمل ووضوح ورؤية صائبة وطريق مثمر.
وأرى أن أختم هذه القراءة الجمالية بلوحه تنبع بالأمل وتزدهي بالإشراق في قول الشاعرة وهي تخاطب المدينة:
وأنت عند ضفاف بوحي
تمرّين بالأبيض عروساً
تشدّين وثاق الأزرق
لتبتسم السماء (ص45)
لوحة فنية تصور مهرجاناً لفرح الإنسان، بالمكان الأرضي والعلوي، بهجة العرس تلف المدينة وتنعقد في السماء، ولشدة تأثير هذه اللوحة الشاعرية كانت عبارة الشاعرة:
الزرقة تسكب روعتها بالمآقي (ص53).
وما أجمل أن ترى العين في الكون ما يبعث على راحتها وتأملها ومتعتها، إنها تجليات الروح التي تخشى عذاب الغد، وتأمل أن يتحول الكون إلى مهرجان عرس.
وفي نهاية قراءتي بين غراس الديوان وثماره اليانعة، أقول بأن اللغة الشعرية بسطت ظلالها الوارقة على الديوان، وتمتعت الصور الفنية بكثير من الحيوية والعذوبة، وارتسمت اللوحات العديدة للمكان والكون الواسع، تحمل عذاب الإنسان ومعاناته، ولكنها في الوقت نفسه تنثر بذور الأمل في أرضية القصائد التي اتسمت بسمات الإنسانية الصافية التي ارتوت من نسيم البحر، وتغذت من عبق المكان وتجملت بالألوان التي تحمل علامات البشرى والفرح، وتألقت الشاعرة في عباراتها وصورها ورموزها، فكانت درجة الإيحاء عالية في الديوان.
وإذا قلت لكم دعوكم من شهادتي بشاعرية جليلة، فإنني أقول بأن الديوان يعد شهادة لغوية وفنية على شاعريتها، نعم !أنت شاعرة جليلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى