«قطط العام الفائت» لإبراهيم عبد المجيد: انتقام الأنبياء المخذولين

شهلا العجيلي

هذا نصّ يضع ناقدة مثلي، مولعة بالواقعيّة، أمام تحدّ جماليّ ليس سهلاً، يجعلني أتساءل عن الشرط الذي مكّن ذلك الجموح الخياليّ من الوجود، إذ أعدّ رواية «قطط العام الفائت» من تلك النصوص التحريضيّة التي ترجّ تاريخ الرواية العربيّة أكثر مما هي رسالة في الممارسة الروائيّة أو التقنيّات، تماماً مثلما كان (دريدا) ينظر إلى شرط ظهور (مسرح القسوة).
اعتدت على أن أواجه في نصوص إبراهيم عبد المجيد تلك الضربة من (العجيب) التي لا تعدمها حياة الفرد، مثل الإمساك بخيط ميتافيزيقيّ وسحبه بلطف إلى العالم الفيزيقيّ، وأحدّد هنا مصطلح «العجيب»، بذلك الذي لا تألفه قوانين الواقع وفيه بهجة، أو أنّه ينتهي نهاية سعيدة، مثلما حدث مع مجد الدين وهالته النورانيّة في «لا أحد ينام في الإسكندريّة»، أو كما حدث مع البنات اللواتي سبحن في النيل مع عشّاقهنّ في مطلع «أداجيو» ثمّ اختفين، أو ما حدث مع صيّاد اليمام وأمّه… لكن ذلك بقي مؤطّراً بإطار واقعيّ واضح.
ستحدث في العالم موجات تغيير حادّة، كما يرى المستقبليّون، ونتحدث هنا عن تغييرات متداخلة اقتصادية واجتماعية وثقافيّة ونفسيّة، تؤثّر في منظومات القيم، وفي الحياة اليومية بالوسائل والطرق كلّها، لتصير أسلوب حياة جديد، وناشئ وآخذ في الانتشار على المستوى العالميّ، وقد تخرج إلى عمليّات تغيير ضخمة، وأرى أنّ «قطط العام الفائت» واحدة من إشارات التغيير الأدبيّ الذي لا يحدث من غير صراع بين أشكال أقدم وأحدث، وهذا الصراع لا ينطوي على عنف بالضرورة، فقد يكون خلاقاً ومفيداً موازياً لما يسمّى بـ (ديزنة العالم) من (ديزني) أو (هولدته) من (هوليوود)، ولن ننسى أنّ (غريغور سانسا) استيقظ ذات صباح فوجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة، وبهذا التحوّل جرّ كافكا العالم الأدبيّ إلى ما سمّي بتيّار العبث.
لعل هذا الشكل من الكتابة الروائيّة، التي تقود إلى السؤال عن رواية المستقبل هو احتجاج صارخ يوازي فداحة القضايا الأخلاقيّة والسياسيّة التي يثيرها علم الأحياء الحديث، والتي قيل منذ مطلع القرن الواحد والعشرين «إنّها ستذهل العقل، وإنّ بحوثاً في علم الجينات، وفي الاستراتيجيّة السياسيّة وفي الاقتصاد، ستحدّد من الذي يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت؟ ومن هو الإنسان؟ ومن الذي سيتحكّم بالبحوث في هذه المجالات؟»، إنّ هذا ما نواجهه اليوم، وسيدلي الأدب بدوره دلوه في هذا الخضمّ، لذا سنتقرّى في نصّ إبراهيم عبد المجيد تحطيم الحاجز بين الأجيال، وبين العام والخاص، وبين الفيزيقي والميتافيزيقي، وبين الرغبة الإنسانيّة والإمكانية البشريّة، ليكون نصّ «قطط العام الفائت» تعبيراً عن الاغتراب، والرفض الإشكاليّ للقيمة الأخلاقيّة الجماليّة التي أنتجها خذلان أولئك الأنبياء الصغار الذين تجمّعوا يوماً ما في ميدان التحرير.
يدخل عبد المجيد بـ«قطط العام الفائت» عالم الفانتازيا بملء المصطلح الذي يقوم على تخييل يضع المتلقّي في حالة من التردّد والشكّ في كونه يعيش بين واقعين، يسير الأوّل بقوانين متعارف عليها، ويسير الآخر بقوانين جديدة مخالفة للطبيعيّ، ولكن الشرط الأساسي الذي يمسك الفانتازيا، حسب (إبتر) هو الرعب، وعدم التمييز بين الواقعين، تماماً كما لا ندرك إن كنّا نعيش في كابوس أو حقيقة في بضع لحظات صعبة، كالفقد أو التعذيب في المعتقلات، أو خوض تجربة قاسية: امتحان أو مرض أو ضياع.
كتبت في عام 1999 رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عن أدب الفانتازيا وعلاقته بالعسف السياسيّ، ولم أجد نصّاً روائيّاُ عربيّاً يتمثّل الفانتازيا السياسيّة بتلك الوفرة الشائقة التي تشفي الغليل، كما وجدتها بعد سبع عشرة سنة في هذا النصّ، ولعلّ سرديّات التراث العربيّ مثل «رسالة الغفران» للمعرّي، و«التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسيّ قاربت المفهوم ، لكنّها نحت منحى الانتقامات الأدبيّة من التصنيفات الثقافيّة التي تلعب فيها السياسة لعبتها. وإذا خرجنا من باب التراث إلى باب ما بعد الحداثة سنجد قطط إبراهيم عبد المجيد هناك حيث سنؤمن بقوانين لم نكن نؤمن بها من قبل، تدعونا لتحرير الخيال، ليس على طريقة الرومانتيكيين، بل على طريقة جورج لوكاس مبتكر سلسلة أفلام حرب النجوم ومخرجها، وإن كان مبدأ التخييل واحداً من عند أرسطو، أو حازم القرطاجنيّ، أو كيتس، ووردزوورث، حتّى عالم ما بعد الحداثة فهو، أي التخييل، عملية إيهام موجّهة تهدف إلى إثارة المتلقي إثارة مقصودة، باستعمال الصورة، سواء أكانت لغويّة أم بصريّة.

الحسّ التاريخيّ

إنّ ما يحوّلنا من واقع إلى آخر، ليس عصا سحريّة، أو طاقيّة إخفاء، بل هزّة الثبات التاريخي للديكتاتورين الراسخين، التي تنقلهم وتنقلنا معهم إلى عالم الفانتازيا، فلا أحد منّا سيصدق ما حدث في ذلك اليوم، وكأنه يوم الزلزلة، أو يوم استيقاظ (غريغور سانسا)، هو ذلك اليوم الذي يشير إليه المشهد الافتتاحيّ لـ«قطط العام الفائت»: «ابتسم الحاكم في دهشة وهو يرى أن أصابعه تمتد إلى الأمام. راح ينظر إليها وهو يقف في صالة قصره وقد اتسعت عيناه. قال لنفسه إنه خيال، أصابعي في مكانها. لكنه وجدها تمتد وتطول وتنزل إلى الأرض. راحت تمشي أمامه إلى كل أرجاء الصالة، وتصعد المقاعد التاريخية التي تركها الملوك القدامى للسلطة الجديدة التي انقلبت عليهم منذ عشرات السنين. رآها تتفرق على الجدران الأربعة البعيدة، تمشي فوق لوحات الفنانين الكبار من أوروبا التي لم تبقَ منها إلا صور مقلدة. لقد قررت زوجته ألا تترك صوراً حقيقية خلفهم إذا انقلب عليهم أحد من الجيش كما انقلب زوجها على الحاكم قبله، أو إذا ثار عليهم الشعب».
تمّ الاعتراف بهذا المعراج المتعلّق بتحوّل سياسيّ خطير، من قبلنا نحن المتلقّين، ومن قبل سكّان عالم (لاوند) حيث فضاء الحدث الرئيسي، وهذا التحوّل لا يعزى إلا إلى نوع من المسّ، الذي اعتدنا أن نسم به أيّ ظاهرة غير مألوفة، ولا مرغوبة في الوقت ذاته: «أجلس على مقعد آخر، قد يكون هذا المقعد ممسوساً، لا أحد يدري ما الذي يحدث في البلاد».
يعيدنا ذلك إلى الموروث الدينيّ أيضاً، فالإنكار واتهام الأنبياء بالسحر والجنون تهمة شرقيّة، بل مصريّة حين تحيل إلى أفاعي سحرة فرعون وعصا موسى، ممّا يضخّ في النصّ دم المحليّة المحتفى بها، مشيرة إلى الحاسّة التاريخيّة التي يقول بها إليوت: إنّها لا تتضمن إدراك الماضي ومعه الحاضر فحسب، وهي لا تعني أن تكتب وجيلك في دمك، بل أن تجعل من الآداب من أيام هومير مجتمعة كياناً معاصراً.

التخييل، والحسّ الواقعيّ

نجد مع هذه الحاسة التاريخيّة الإصرار على التخييل، فوداع الخيال هو استسلام كامل للعدو الذي هو الواقع عند اليائسين من أمثال رومان غاري. إنّ الاغتراب الذي تصنعه الفانتازيا حينما تنقلنا إلى (لاوند)، تبدده الشخصيّة المألوفة المحبّبة، إذ تحضر سعاد حسني بقصّتها الوقائعيّة، تأتي من الشام، لتحوّل معايير الذوق العامّ من الجمال النادر المهيب إلى الحلاوة التي تمتلكها الفتاة التي تسكن في الشقّة المجاورة، ولنجد منها نسخاً كثيرة من الصبايا المصريّات اللواتي سيتعرّضن للاعتقال، ذلك أنّها تنقلنا هذه المرّة إلى (العجيب) ليحمينا من قسوة الفانتازيّ، إذ تمنح سعاد حسني قبلة الحياة للثوار في الميدان الذي لا نستطيع إلا أن نحيله إلى ميدان التحرير، وبذلك نعود إلى حكايات العجيب المتصرّف بها، إلى قبلة الحياة، والأميرة النائمة، ورابنزيل… وهكذا كلّما أوغلنا في الاغتراب ستحمينا الشخصيّات الوقائعيّة المحاكية، لذا نجد الدكتور العالمي، والمذيعة منى البرادعي، وسعاد حسني، والشيخ شمعدان الذي يحيل إلى حزب النور، وجماعة النصيحة والهدي، فيعادل الروائيّ الوسط الحمضيّ بالقلويّ على طريقة الكيميائيين، وبذلك لا يفقد الحسّ الواقعيّ المؤسس على الحقيقة والذي هو سبب وجود الفنّ الروائيّ خاصّة، إذ يعده زولا ضرورة مطلقة ليصور المرء الحياة، وما الإنكار الذي تشير إليه العتبة النصيّة الإنشائيّة التي تقول: «وأيّ تشابه مع الواقع غير مقصود» سوى عبارة إخباريّة تحثّ على التصديق.
لعلّ أيّ خروج على الواقع هو من أجل خدمته في النهاية، ذلك أنّ الفنّان في حالة تنافس أبديّة مع سيرورة الحياة، يبحث فيها عن المحتمل الذي لم يتجلّ على مسرحها بعد، وإذا ما فكّرنا بحوادث العالم العربيّ منذ 2010 سنجد أنّها تضع العقل في الكفّ، فلا بدّ إذن من حيلة، من ضرب آخر من الكتابة يثبت إخلاص الأدب للمبالغة، وأنّه فوق الواقع أو تحته، لكنّه ليس الواقع. هكذا تأتي فانتازيا «قطط العام الفائت»، مزيجاً من حيل فرعون وسحرته، وتحويله الثوّار إلى قطط، ورميهم في زمن سابق، أمام قدرات أنبياء صغار هم الثوّار، مؤيّدين بمعارف مضادّة، وشخصيّات محبّبة قادمة من عالم الطفولة الحرّة تمثّلها شقاوة سعاد حسني المحمولة على «بيجاسوس» الحصان الأسطوريّ المجنّح، ويساعدها كينغ كونغ، ومعهم أشعار أحمد فؤاد نجم، وعلاقات حبّ، وتاريخ عائليّ من النضال اليساريّ.
أثبتت هذه الأدوات وغيرها كثير، شجاعة إبراهيم عبد المجيد في هذا النصّ في مضارعة آفاق الشباب الذين نشأوا في عالم الألعاب الإلكترونية، ويستطيعون بناء فضاء وتقويضه بكبسة زرّ، لكنّه بسبب الخبرة والثقافة لم يقم قطيعة مع الموروث العربيّ، إذ تواصل مع حكايات الغيلان وندّاهات البحار والأنهار، ومع موروث المسرح الإغريقيّ حيث يترفّق سوفوكليس بمصير إلكترا. هذه التناصّات المقصودة أو غير المقصودة تلخّص هدف الفانتازيا الذي قد يكون مضارعة الواقع المجنون، أو التجريب والتفوّق على الذات، أو الهروب من اليوميّ، أو الإتيان بضروب من اللعب، وفي النهاية عودة إلى الواقع بعد أن أعلن الروائيّ أنّه فاض بنا، وأنّنا سنخرج من جلده ومن ثيابه.

اغتراب جماليّ

يشير النصّ إلى البشريّة التي تكبّل السلطة، وإلى الاضطهادات التراتبيّة داخل الأنظمة ذاتها، التي تسيّرها المصلحة، وإلى انكسار الأنثويّ في زوجات القادة والرموز السياسيّة. لكنّ البراعة التي تصنعها الفانتازيا هنا تكمن في منح مساحة لخروج كبير على قوانين علم الجمال الأرسطيّ الذي نتعرّف عبر نماذجه عادة إلى أنفسنا، حيث البطوليّ ينسجم مع الجليل، أو مع التراجيديّ، وينفر من الكوميديّ، لكن يتحوّل هنا رمز السلطة الذين ظلّ جليلاً لعقود إلى كوميديّ، عبر الأفكار البشرية التي تنتقم من الشرير، والــتي نعزي أنفســــنا بها إذ نجعـــلها عقابا عادلاً، فنســمع حديثاً تهكّميّاً عن الاشتهاء، وعن الجنس وعنّة الحاكم، وغلمة زوجته المحرومة، فالحاكم يهرب من مقاربة زوجته المسيطرة، وينفرد بصور سعاد حسني العارية، لكنّ الزوجة تلاحقه، فيتعلل بخلل في البروستات: «ولم تعرف أنهم هناك ضحكوا عليه ووضعوا له بروستات من ورق، يذوب مع أي سائل يمرّ به، وينزل في النهاية مع البول. إنه كثيراً ما يبكي في الليل على البروستات الضائعة، ويقول: كانت حلوة زيّ الفلّ».
إنّ انحدار الجليل إلى الكوميديّ يصنعه مشهد دخول وزير الأمن والأمان (مم) إلى المقبرة ليستنطق سعاد حسني في قبرها، لاسيّما إذا ما قارنّاه بمشهد دخول أوديسيوس عالم الموتى، أو بحوار هاملت مع شبح والده، إنّها مفارقة ممتازة تملأ لدى الناقد فراغاً جماليّاً، فيها براعة في نقل التراجيدي والجليل إلى الكوميدي: «لقد اكتشف قبل زيارته أنّه لم يعد يحفظ من القرآن غير الفاتحة وكثيراً ما ينهيها بسرعة، فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، اهدنا الصراط المستقيم. آمين»…هل معقول أنّ الفتاة التي أعادت الشباب من العام السابق هي أنتِ؟…أنا الذي لم يكن لي أي عـــــلاقة بك وأنت تنفــذين أوامر المخابرات في بلدك…ولا كان لي دخل بموتك منتحرة أو بجريمة ارتكبت في حقك من مخابرات بلدك. لقد ضعفت يا سعاد، أنا قاهر الشعب القويّ. ضعفت جداً وبدأت أصدق أنك تعودين للانتقام».
تتفاعل «قطط العام الفائت» الرواية التي صدرت مؤخّراً عن الدار المصريّة اللبنانيّة 2017، مع عوالم فيسبوك، وتغريدات تويتر، والهواتف المحمولة، وإعادة ضبط الزمن، وتتمثّل فضائل الإبداع في تفعيل الحسّ التاريخيّ، والحسّ الواقعيّ، والحسّ التخييليّ، وقد تفسّر إحدى التغريدات العنوان: «نتحول إلى قطط لنهرب من سجونكم. نتحول إلى قطط لندخل بيوتكم ونأكلكم».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى