‘في المعتقل’ .. رواية اللحن الواحد وتعدد الأصوات

هيام الفرشيشي
“في المعتقل” رواية سياسية لمحمد عيسى المؤدب، صدرت بعد الثورة التونسية، يتكون غلافها الخارجي من لوحة للفنانة التشكيلية اللبنانية ناهد درويش عيسى بها صورة فرسين يحفران بأقدامهما على التراب والأحجار ويندفعان إلى الأمام، ونجد صدى لهذه اللوحة في الرواية في الصفحة 81.

“تطلعت إلى لوحة أمامي، تفرست في رسوماتها وألوانها، تلك اللوحة كانت تضج بكل كوابيسي وأحلامي.. مشهد فرسين متمردين، يكسران الأغلال والأصفاد والقضبان الحديدية ويتحرران وينعتقان”.

الغلاف مؤطر باللون الأصفر، وهو لون مزدوج من جهة فهو لون نور الشمس وهو أيضا رمز كل ما هو خديعة وغش وصحف صفراء، أما العنوان فقط كتب باللون الأحمر كتأشير على التوتر.

وجاءت الرواية في ستة فصول، توخى فيها السارد تعدد الأصوات عبر ثلاث شخصيات روائية، وجاءت الفصول غير معنونة بل مرقمة، ويتكون هذا النص الروائي من تصدير، وهو مقطع سردي لأنيس منصور “هو لا تعذبه السياط، كان يعلم أنه سيموت وحيدا”، وإهداء إلى شخصيتين في الرواية وهما أماني في محاولة لاسترجاع ذاكرة مفقودة، وإلى ادريس منصور القلق.

• الفضاء المنظور للرواية

ويتعلق على وجه الخصوص بالرؤية، التي يقدم بواسطتها القصة المتخيلة، فحين ينهي إهداءه الى كيان ينهض من رماده. هذا الكيان الأشبه بطائر الفينيق الذي أحدث محرقته لينبعث من جديد يضعنا في أرضية الحدث الروائي البارز، 15 يناير وعناوين الصحف تتحدث عن هروب الطاغية، القبض على عصابات الطرابلسية، فالحدث الروائي البارز هو العثور على جثة كهل يرجح أنه من التيار السلفي، وقد كتب على أحد الجدران “انتقمت وتحررت مثلما تحررت البلاد من الطاغية”، ويجرى التحقيق مع وجوه يسارية متطرفة، فالرواية تضعنا منذ صفحتها الأولى أمام سؤال التطرف، فهو لا يرتبط بمذهب سياسي وإنما يرتبط بالغلو والعنف، الجثة لمتطرف سلفي، المتهم متطرف يساري، والطاغية هو حاكم متطرف مخلوع.

فمحمد عيسى المؤدب حين كتب روايته، انطلق من واقع ما بعد الثورة وذلك للتعبير عن القمع وتفكيكه، لأن القمع لا يقترن بنظام زائل فحسب بل باستفحال ظاهرة التطرف الديني وخطاب العنف وممارساته أيضا، فالعنف قد يعود إلى مصادر اجتماعية سياسية دينية، وفي عملية التعبير عنه فقد بنى روايته من خلال تعدد الأصوات، فأماني السحباني كانت ضحية عصابة متطرفة جندتها لتوزيع المناشير، ثم وقع احتجازها في شقة بالمنزة تنشط فيها تلك العصابة ووقع اغتصابها والتداول عليها تحت مسمى الجهاد، الى أن داهم الأمن الشقة ووقع التحقيق معها ورميها في مستشفى الأمراض العقلية سنة كاملة، وتبرؤ والديها منها وموتهما طعنا في كرامتيهما المهدورة والتنكر لها من قبل أخيها واهل القرية.

في حين أن زبيدة أمين امرأة أعمال عثر على زوجها ميتا داخل السيارة، وعلى جسده آثار عنف، ثم سجل بأنه مات على إثر سكتة قلبية. فرجل مهم في السلطة أرسل له محاميه ليدخل شريكا في المصنع بنسبة 51 في المائة. ثم وقع إعادة عرض الطلب بعد ذلك على زوجته، وحين واجهتهم بالحقيقة بأنهم من قاموا بتصفيته برروا أنها تدعي عليهم بالباطل ولا حجج ولا براهين تدينهم، وهي تنتقل من الحديث عن عصابات السياسة والاقتصاد المافيوزية، للحديث عن أفكار المجتمع المتحجرة، فحين تعرفت على أماني السحباني وعرفت كوابيسها وصاحبتها الى قريتها خفية عن عيون أهل القرية لزيارة قبري والديها حاول البعض أن يلصقا بهما تهمة التفتيش عن الكنوز، فبقيتا مسكونتين بهاجس الانتقام ووجدتا في الثورة ما يطفئ غضبهما.

إلى جانب ذلك نجد ادريس منصور وهو صحفي تحدث عن تعرضه للاعتقال في مظاهرات عند تطويق الأمن للجامعة وتصاعد الاحتجاجات يكتب في الجرائد قبض عليه حين كان برفقة طالبة متحجبة. واسترجع كل أساليب العنف التي كانت تمارس في المعتقلات. وتطرق إلى فساد الصحافة ورئيس التحرير الذي كان ينعته بكل العبارات المنكلة ذلك أن الصحافة مرتبطة بالسياسة ليس إلا.

وجهة نظر الكاتب واضحة من الصفحة الأولى للرواية إلى الصفحة الاخيرة. المجتمع بعد الثورة بقي يعيش هيمنة أبوية متسلطة، وكأن المجتمع مكون من أفراد قاصرين قد يتلقون العقاب في الدنيا واللعنة في الآخرة لكل من يعادي الأب، وقيام نظام تكفيري لا يعترف بالآخر، وكل ما كان يحتاجه المثقف/ المبدع أن ينقد الفكر، الثقافة، الممارسات الدينية المتطرفة لإقرار فهم بديل للقيم والحياة والمجتمع، أن نخرج من اللاوعي إلى نقد أفكارنا حول الواقع والسياسة والثقافة.

اذ بين محمد عيسى المؤدب أن المجتمع لم يكن مهيأ فكريا ونفسيا للاعتراف بالآخر، قبوله، والتعايش معه، وأن ما تفرضه قيمة الوطن بمعنى الولاء إلى قوانين البلد حقوق الجميع بشكل قانوني وليس من خلال التمرد على القانون للوصول إلى أهداف، وإلا فنحن ننقد القمع لنؤسس لقمع جديد. والنقد يتجه نحو تفكيك اللاتسامح والاستبداد في اللاوعي بدءا بتفكيك صورة الأب المفكر السياسي، رجل السلطة، رجل الدين الذي يفترض لنفسه سلطة اجتماعية وسياسية غالبا ما تكون قمعية، ومعرفة المرجعيات التي قام عليها العنف سواء كانت بشرية والاهية. حتى ان ادريس منصور لم يكن ينادي بالانتقام بل يترك الأمر للقانون فهو الفيصل.

• الفضاء المعادل للمكان

وهو الحيز المكاني الجغرافي وهو فضاء للأمكنة المرجعية والتخيلية التي يضمها النص السردي.

وهي أمكنة أمومية وأخرى أبوية، فهناك أمكنة متوترة مثل نهج العملة، نهج محمد علي، بطحاء محمد علي، الزنازين، الجامعة، مستشفى الأمراض العقلية، المقابر الزلاج والقرية، شقة بالمنزه تؤم عصابة سلفية، أمكنة اخطبوطية في مواقع القرار، المصانع، أمكنة مشحونة بالحياة والحركة، الأسواق الضاجة بالألوان والحياة والحركة والتراث الصوفي.

• الفضاء الدلالي

يتحول من مكان حقيقي إلى آخر مجازي فقد كان عم ابراهيم شاهدا على الماضي وهو من الفلاقة مع مصباح الجربوع رمز مقاوم. والذي سقط عليه سقف فمات آخر الرواية، لتقوم على أنقاضه مقاومة في الزمن الحاضر. والفعل المقاوم الذي تتعقبه الأجيال ينهض من الركام، أما المقابر ومستشفى الأمراض العقلية وبعض الزنازين فهي “مناطق خلفية مسربلة بالأوهام والكوابيس والأقنعة’ تعري أوهام الشخصيات التي تجد في العنف نوعا من التطهر بعيدا عن إعمال الفكر.

• شخصيات الرواية

هذه الرواية رواية اللحن الواحد الذي تعزفه شخصيات بآلات متعددة، نصغي من خلالها إلى الصوت السيكولوجي الدرامي، ولكن سرد الأحداث عبر تقنية تعدد الأصوات يشبه العزف على آلات موسيقية مختلفة، فلكل شخصية لغتها وأسلوبها في الحكي إلا أن الموضوع واحد وهو القمع السياسي والديني الذي سبق الثورة التونسية، وكذلك الأحلام واحدة فهي مرتبطة بماض حلمي وبحاضر كابوسي، كما أن تعدد الأصوات في الرواية لم يبرز لنا تعدد المواقف أو اختلاف المنظور الأيديولوجي للشخصيات، فقد جمعتها احتجاجات الثورة، وأطلقت أعيرة غضبها، وجمعتها معاناة من عصابات الفساد التي تضع يدها على كل شيء. فكل وجهات النظر تتنافذ وتتداخل لتشكل موقف الكاتب، فهو صحفي وقد لا يجاري تماما ما تذهب اليه أماني وزبيدة في رغبتيهما في الانتقام، فله وعي مخالف في النهاية، فهو يخاطب أماني: “سيندمل الجرح وستنهض العنقاء في أعماقك”.

• على سبيل الخاتمة

حتى وان خلت لغة الرواية في أغلب الاحيان من الاستعارات والصور فهي محملة بالدلالات، حتى معجم السب اليومي، فهو يقال بطريقة تكشف عن بنية الواقع. وقد اعتمد الكاتب في تشكيله الزمني للسرد على الاسترجاع للربط بين حاضر الشخصيات وماضيها فردود أفعالها مقترنة بالماضي ليرصد علاقة الزمن بالشخصيات، معتمدا تقنية تعدد الأصوات.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى