سيد حجاب … هموم الصيّاد وشغف الإيقاع

سيد محمود

غيَّب الموت مساء أول من أمس الشاعر المصري سيد حجاب عن ٧٧ سنة. وشيّعت جنازته أمس، لتختتم بذلك تجربة أحد فرسان جيل الستينات وليلحق بأبرز مجايليه عبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحيم منصور.
حظي حجاب بجماهيرية واسعة منذ ثمانينات القرن العشرين، بسبب كتابة الأغاني وشارات المسلسلات التلفزيونية التي أعطت شعره حيزاً طغى على مساهماته في تطوير شعر العامية المصرية، خصوصاً في كتابة قصيدة متحررة من سطوة تأثير جيل الآباء ممثلاً في فؤاد حداد وصلاح جاهين. تمكَّن حداد من تحرير هذه القصيدة من قالب الزجل الذي وصل إلى ذروته مع بيرم التونسي الشغوف بالنقد الاجتماعي، فكتب قصيدة من لغة الناس، تنهض على الصورة الشعرية بمواصفاتها في شعر الفصحى. ثم جاء جاهين واستثمر أكثر من غيره في عملية «تذويب اللغة» وصهرها في نسيج الحياة اليومية، مع السعي إلى تلمس تحولات القصيدة الفصحى التي كانت تشهد انعطافة باتجاه كتابة شعر التفعيلة، والمغامرات الأولى لقصيدة النثر أواخر خمسينات القرن العشرين.
ومع ظهور شعراء الموجة الثانية لشعر العامية ممثلاً في عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ومجدي نجيب، سعى هؤلاء إلى تطوير هذه المكاسب في فضاء تحولات كان يشهدها الأدب المصري آنذاك مع تبلور ما اصطلح على تسميته «جيل الستينات» الذي انعكست هزيمة 1967 على إنتاجه. وظلت رهانات أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود ترتكز على تطوير ما أنجزه بيرم التونسي في القالب والمضمون.
وفي سياق تجارب هذا الجيل يبدو المشروع الشعري لسيد حجاب معنياً أكثر بالتجريب والمغامرة. ساعد على ذلك توجه الأبنودي ومجدي نجيب وعبدالرحيم منصور وأحمد فؤاد نجم إلى كتابة الأغاني. وكان ظهور الديوان الأول لحجاب «صياد وجنيّة» في العام ١٩٦٤ حدثاً كبيراً. وتغلب على هذا الديوان الذي أصدرته دار «ابن عروس» التي أسسها صلاح جاهين، نبرة جمالية خاصة، لا تخفي انحياز صاحبها إلى هموم قرى الصيادين القريبة من بحيرة المنزلة في شمال مصر. كما يطغى فيها، إلى جانب الحس الأيديولوجي، الشغف بالإيقاع والتواشج الصوتي، وهو ما سيميّز شعر حجاب بعد ذلك، إذ يسهل فيها اكتشاف طابع الأرابيسك والرهان على التعشيق وزخارف التداخل الصوتي وترصيع الصور الشعرية.
ارتبط سيد حجاب بصداقة عميقة مع عبدالرحمن الأبنودي، وعملا معاً في برنامج إذاعي نال شهرة كبيرة هو «بعد التحية والسلام» الذي اعتمد على كتابة قصائد تحفز على العمل وتَجاوز آثار الهزيمة. وفي إطار هذه الصداقة التي لم تستمر طويلاً، انضم الشاعران إلى تنظيم سياسي يساري، وسجنا من نهاية تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٦٦ حتى آذار (مارس) ١٩٦٧، مع إبراهيم فتحي وجمال الغيطاني وصلاح عيسى وصبري حافظ، وتوسّط جان بول سارتر للإفراج عنهم. ولم يكن غريباً في سياق مغامرات هذا الجيل أن تكون قصائد حجاب ضمن المواد التي تضمنتها أعداد المجلة الطليعية «غاليري ٦٨»، وطوال سنوات الستين حافظ على حسّه المغامر الذي تجلى في دواوينه («في العتمة»، «أصوات»، «نص الطريق») ساعياً فيها إلى كتابة قصائد ذات تصاعد نغمي ودرامي، مشغولة باكتمال البناء وبكارة التكوين البصري للصورة الشعرية التي كانت تنمو فيها «لغة فوق طبيعية»، بتعبير إبراهيم فتحي.
في مجمل أعمال سيد حجاب، يبدو واضحاً تواصله مع المنجز الشعري الفصيح وإصراره على عدم الفصل بين العامية والفصحى. وفي السنوات التي أعقبت حرب 1967، جرَّب كتابة الأغنيات الاحتجاجية، فقدم أغنيتين مع الشيخ إمام عيسى، ثم تفرغ لكتابة الأغنيات الدرامية وبدأ شهرته من تعاونه مع المخرج الراحل كرم مطاوع في مسرحية «حدث في أكتوبر».
واعتباراً من منتصف سبعينات القرن العشرين، بدا واضحاً أن سيد حجاب ركز مشروعه على كتابة الأغنية، للتواصل مع جمهور أكبر، عقب النجاح الذي حققته أغنيته «ياما زقزق القمري على ورق الليمون» بصوت ماهر العطار. وفي تلك السنوات كان له دور مميز في تقديم جيل السبعينات الشعري من خلال عمله في مجلة «الشباب»، وهي تجربة اعتزّ بها كثيراً. غير أن الانطلاقة الاستثنائية جاءت مع مقدمة مسلسل «الأيام» الذي قدمه المخرج يحيى العلمي عن سيرة عميد الأدب العربي طه حسين.
اضطلع حجاب بالدور الأكبر في إعادة كتابة سيناريو المسلسل الذي يحمل اسم الكاتبة أمينة الصاوي، وقدم إلى جانب أغنية المقدمة والنهاية، أغنيات للربط الدرامي (بصوت علي الحجار). كان هذا المسلسل منصة لإطلاق نجومية الممثل أحمد زكي، وثنائية سيد حجاب والموسيقي عمار الشريعي التي كانت عنواناً لنجاح شارات أكثر من خمسين مسلسلاً تلفزيونياً. وإضافة إلى ذلك، ساهم حجاب في إطلاق «الأغنية البديلة» في السياق الزمني نفسه، بفضل تعاونه في كتابة أغنيات فرق غنائية عدة، منها «الأصدقاء» مع عمار الشريعي، ثم تقديم الألبومات الأولى لمحمد منير وكتابة أغنيات للأطفال مع المطربة عفاف راضي.
كلها مشاريع منحت اسم سيد حجاب جماهيرية عريضة، لكنها لم تغيّب شغفه بالمغامرة التي يسهل الاستدلال عليها من أغنياته التي كانت عنواناً لمرحلة رسم ملامحها الكاتب أسامة أنور عكاشة في «الشهد والدموع»، و «ليالي الحلمية»، و «كناريا»، و «أرابيسك»، وغيرها من الأعمال مثل «الأصدقاء»، و «بوابة الحلواني»، و «العائلة» و «أوبرا عايدة». ويكفي أن هذه الأغنيات يصعب تفادي حكمتها وطابعها الحميم وإيقاعها المشدود، حتى أنني شبَّهتُها ذات يوم براقصة الباليه المشدودة إلى الإيقاع التي تقفز من فوق الأرض وتتطلع دائماً نحو الفضاء.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى