ملامح دراسات الهوية في الجامعات الإيرانية: أجندات سياسية وفقر على مستوى المقاربات البديلة

محمد تركي الربيعو

تسبّبت تجربة المحاكاة والتأثر بالحداثة الغربية داخل منطقة الشرق الأوسط، في بدايات القرن الماضي، بتبعات وإشكاليات عديدة، لا تزال تؤثر بالسلب على المستوى السياسي والثقافي والديني داخل المنطقة.
وقد أدت الأشكال المختلفة للتعامل ومواجهة العملية التاريخية للحداثة في الدول ذات الثقافات والتقاليد القديمة مثل إيران ومصر، إلى تجسيدات مميزة ولافتة للنظر، لأن الحداثة وتبعاتها التفكيكية تحدّت التقاليد التاريخية والثقافية والدينية والسياسية لهذه الدول. وكنتيجة لهذه المواجهة، ظهرت مجموعة كبيرة من الأدبيات حول الحداثة وتبعاتها، والخطابات المختلفة القطرية والمحلية والعالمية.
وقد شكل سؤال الهوية في إيران مثلاً أحد الموضوعات الرئيسية لهذه الجدالات الفكرية، منذ التواصل الأول مع الحداثة، وقدوم نظام بهلوي الاستبدادي، الذي بدا داعماً للتحديث ومروجاً لها، مروراً بالمرحلة الجديدة الأكثر تعقيداً التي شهدتها إيران بعيد الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، إذ أثارت مشكلة الهوية في إيران الإسلامية، اهتمام الكثيرين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ولم يقتصر سؤال الهوية على اهتمام المسؤولين الرسميين والمفكرين حسب، ولكن شمل العديد من الأعمال الأدبية والفنية وما إلى ذلك في الداخل، الأمر الذي أدى إلى تقييد مثل هذه الأعمال بقواعد صارمة. وكان من بين ردود الأفعال والسياسات الوقائية المتعلقة بمشاكل الهوية، خاصة أزمة الهوية، البرامج المختلفة لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية والسياسات والقواعد المتصلة بمنع أو تصريح استخدام الأقمار الصناعية.
ولمعرفة أدق بأسئلة الهوية وإشكالياتها، التي أخذت تطرح داخل الساحة الإيرانية، يمكن أن نشير هنا إلى التقرير الجديد الصادر بالعربية عن سلسلة مراصد/مكتبة الإسكندرية تحت عنوان «مأزق الهوية في إيران» الذي أشرف على كتابته ثلاثة باحثين إيرانيين في علم الاجتماع هم: أحمد محمود بور وجليل كريمي وكريم محمودي، إذ سعى التقرير إلى البحث في الأسئلة التي طرحها الباحثون الأكاديميون الإيرانيون حول الهوية الإيرانية، والتحولات التي شهدتها الأجندة البحثية داخل هذا الحقل البحثي خلال العقدين الأخيرين، بالإضافة إلى التعرف على النظريات والمناهج الاجتماعية التي اعتمدها هؤلاء الباحثون أثناء إعدادهم لرسائلهم البحثية. وقد حاول التقرير الإجابة عن هذا الأسئلة عبر تحليل ما يقارب من 40 رسالة ماجستير ودكتوراه أُعدّت في الجامعات الإيرانية خلال الفترة الممتدة بين عامي 1995 و2011.
ومما يسجله معدو التقرير قبل البدء في إظهار نتائج التحليل، إشارتهم في المقدمة إلى أن أي دراسة إحصائية للأدبيات الإيرانية حول الهوية توضح أن الغالبية العظمى من الكتاب الإيرانيين ناقشوا قضية الهوية في أعمالهم، معتمدين على خطاب أو زمان أو مكان العمل بطريقة أو بأخرى مثل دراسات: مظهر بروجردي، وعبد الكريم سروش، وداريوش شايغان، وعلي شريعتي، وحسين نصر، ومير محمدي، وغيرهم من الباحثين الإيرانيين.
ولعل ما يجمع كل كتابات المفكرين السابقين – كما يسجل التقرير – هو في تأكيدها على وجود علاقة ومزامنة بين دخول شكل معين من الحداثة لإيران وظهور مشاكل الحديث عن أزمة الهوية. ورغم أن المثقفين الإيرانيين سالفي الذكر، لم يجمعوا أو يتفقوا على عامل واحد لتعيين الهوية الإيرانية، فإنهم بشكل عام نظروا إلى اللغة الفارسية، والمذهب الشيعي، والإسلام، والحداثة، والتاريخ القومي بوصفها عوامل أساسية ساهمت في تشكيل بنية للهوية الإيرانية ذات ترتيب مركب ومهجن على كل مستوياته.
أما على مستوى الدراسات الأكاديمية، فإن التقرير يشير إلى أن البحث الرسمي وغير الرسمي أخذ يميل اتجاه أبحاث الهوية القومية منذ تغير الحكومة عام 2005، بينما اتجه العديد من دراسات الهوية اثناء الحقبة الإصلاحية، إلى الاهتمام بالهوية الفرعية والهوية الحديثة، الأمر الذي يفسره معدو التقرير كونه يتعلق بتأثر الباحثين في الفترة الإصلاحية بالنظريات الجديدة للهوية، التي تتفق مع حالة عدم اليقين وسيولة منطق ما بعد الحداثة ومرونته، إذ تم تقدير الكثير من نظريات الحداثة وما بعد الحداثة في الحقبة الإصلاحية، خاصة في الجامعات من خلال المحاضرات والكتب والمقالات والمقررات والموضوعات الدراسية، ولكن بعد الحقبة الإصلاحية تم التقليل من شأن الخطابات المستندة إلى أساس غربي، واعتبرت السيولة والمرونة في منظور ما بعد الحداثة تهديداً للهوية الإسلامية (الشيعية) أو الهوية الإيرانية (القومية)، حتى أن البعض أخذ يندفع في ظل هذه السياسات الجديدة إلى الحديث عن العلوم الإنسانية الإسلامية. ومن هنا أخذت تتميز المرحلة الجديدة في حقل دراسات الهوية داخل الجامعات الإيرانية، بالتركيز على دراسة العلاقة بين الهوية القومية والهوية الفرعية (وبصفة أساسية العرقية) أكثر من العلاقة بين التصنيفات الأخرى للهوية، كما أخذت الأجندات الحكومية تسعى إلى الضغط على الأجندة البحثية داخل الجامعات، من خلال التأكيد ودعم فكرة أن الهوية القومية تعد هوية أساسية وجوهرية، في حين أن الهويات الأخرى (الفرعية) تعتبر عوامل إزعاج وتهديد للهوية القومية. كما أن ما أخذ يميز الواقع البحثي الجديد مقارنة بمرحلة الاهتمام الأولى بالأدبيات ما بعد الحداثوية، هو في عدم الاتساق الداخلي للأطر النظرية للرسائل البحثية المعدة، إذ أخذ الباحثون الإيرانيون يدرجون – بحكم عدم التراكم والمراجعة في حقل الدراسات الغربية حول الهوية داخل الجامعات الإيرانية – مجموعة من النظريات الحالية عن موضوع ما في الإطار النظري، بصرف النظر عن وجود تباين – وأحياناً تناقض- بين هذه النظريات في مستوى التحليل.
مع ذلك، ورغم كل محاولات التركيز على دراسة الهوية القومية بعد فترة الإصلاح، فإن ما يسجله التقرير هو نمو نزعة الاهتمام بدراسة الهويات العرقية داخل الجامعات الإيرانية، الأمر الذي يفسره التقرير بأنه نتيجة حالة الاستياء الاجتماعي وعدم المساواة أو الشعور بعدم المساواة والفقر النسبي والاستياء السياسي والتمييز الثقافي والاجتماعي، كما أخذ العديد من الدراسات في السنوات القليلة الماضية رغم التضييق البحثي، ترصد حالة بروز الانقسامات الدينية والقيمية، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في دعم ظاهرة نمو الهويات العرقية داخل المجتمع الإيراني. ورغم أهمية هذه الاهتمامات على مستوى محاولة تعديل الأجندات البحثية داخل الجامعات الإيرانية، غير أنها بقيت تهمل التحولات الأخيرة في الموقف النظري للهوية ومكوناتها ومصادرها. فقد بقيت هذه الدراسات تركز في مقاربتها على وجود ارتباط وتزامن بين دخول شكل خاص من الحداثة إلى إيران، وبزوغ مشكلة الهوية، ومن ثم لفت الانتباه إلى عناصرها الرئيسية مثل الأمة. ولذلك فقد أهملت هذه الدراسات بعض العناصر التي وصفها انطوني غيدنز باعتبارها تنتمي إلى الحداثة المتأخرة (حقبة ما بعد الحداثة) مثل الحياة اليومية (نمط الحياة، والعلاقة اليومية مع الآخرين، والأحلام الشخصية، والجسد، والطعام، والوعي) وعلاقة الإنسان بالزمن والذاكرة الجمعية، والمؤسسات الاجتماعية والنوع الاجتماعي ووسائل الإعلام، التي باتت تعد اليوم مصدرا أساسياً للهوية، ومدخلاً جديداً لمقاربة سؤال الهوية في العديد من الدراسات الجديدة حول موضوع الهوية المحلية والعالمية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى